الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **
وهو الكتاب السابع من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين. بسم الله الرحمن الرحيم نحمد الله حمد الشاكرين ونؤمن به إيمان الموقنين ونقر بوحدانيته إقرار الصادقين ونشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين وخالق السموات والأرضين ومكلف الجن والإنس والملائكة المقربين أن يعبدوه عبادة المخلصين فقال تعالى: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " فما لله إلا الدين الخالص المتين فإنه أغنى الأغنياء عن شركة المشاركين والصلاة على نبيه محمد سيد المرسلين وعلى جميع النبيين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين. أما بعد: فقد انكشف لأرباب القلوب ببصيرة الإيمان وأنوار القرآن أن لا وصول إلى السعادة إلا بالعلم والعبادة فالناس كلهم هلكى إلا العالمون والعالمون كلهم هلكى العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم. فالعمل بغير نية عناء والنية بغير إخلاص رياء وهو للنفاق كفاء ومع العصيان سواه والإخلاص من غير صدق وتحقيق هباء وقد قلل الله تعالى في كل عمل كان بإرادة غير الله مشوباً مغموراً " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً " وليت شعري كيف يصحح نيته من لا يعرف حقيقة النية أو كيف يخلص من صحح النية إذا لم يعرف حقيقة الإخلاص أو كيف تطالب المخلص نفسه بالصدق إذا لم يتحقق معناه فالوظيفة الأولى على كل عبد أراد طاعة الله تعالى أن يتعلم النية أولاً لتحصل المعرفة ثم يصححها بالعمل بعد فهم حقيقة الصدق والإخلاص اللذين هما وسيلتا العبد إلى النجاة والخلاص. ونحن نذكر معاني الصدق والإخلاص في ثلاثة أبواب: الباب الأول: في حقيقة النية ومعناها. الباب الثاني: في الإخلاص وحقائقه. الباب الثالث: في الصدق وحقيقته. وفيه بيان فضيلة النية وبيان حقيقة النية وبيان كون النية خيراً من العمل وبيان تفضيل الأعمال المتعلقة بالنفس وبيان خروج النية عن الاختيار. قال الله تعالى " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه " والمراد بتلك الإرادة هي النية. وقال صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى فمن كان هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ". وقال صلى الله عليه وسلم: " أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته ". وقال تعالى: " إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما " فجعل النية سبب التوفيق. وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ". وإنما نظر إلى القلوب لأنها مظنة النية. وقال صلى الله عليه وسلم: " إن العبد ليعمل أعمالاً حسنة فتصعد الملائكة في صحف مختمة فتلقى بين يدي الله تعالى فيقول: ألقوا هذه الصحيفة فإنه لم يرد فيها وجهي ثم ينادي الملائكة: اكتبوا له كذا وكذا اكتبوا له كذا وكذا فيقولون: يا ربنا إنه لم يعمل شيئاً من ذلك فيقول الله تعالى: إنه نواه ". وقال صلى الله عليه وسلم: " الناس أربعة: رجل أتاه الله عز وجل علماً ومالاً فهو يعمل بعلمه في ماله فيقول رجل: لو آتاني الله تعالى مثل ما آتاه لعملت كما يعمل فهما في الأجر سواء ورجل آتاه الله تعالى مالاً ولم يؤته علماً فهو يتخبط بجهله في ماله فيقول رجل: لو آتاني الله مثل ما آتاه عملت كما يعمل فهما في الوزر سواء ". ألا ترى كيف شركه بالنية في محاسن عمله ومساويه. وكذلك في حديث أنس بن مالك: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قال: " إن بالمدينة أقواماً ما قطعنا وادياً ولا وطئنا موطئاً يغيظ الكفار ولا أنفقنا نفقة ولا أصابتنا مخمصة إلا شركونا في ذلك وهم بالمدينة! " قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله وليسوا معنا قال: " حبسهم العذر فشركوا بحسن النية ". وفي حديث ابن مسعود: من هاجر يبتغي شيئاً فهو له فهاجر رجل فتزوج امرأة منا فكان يسمى مهاجر أم قيس. وكذلك جاء في الخبر: " إن رجلاً قتل في سبيل الله وكان يدعى قتيل الحمار " لأنه قاتل رجلاً ليأخذ سلبه وحماره فقتل على ذلك فأضيف إلى نيته. وفي حديث عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من غزا وهو لا ينوي إلا عقالاً فله ما نوى ". وقال أبي: استعنت رجلاً يغزو معي فقال: لا حتى تجعل لي جعلاً فجعلت له فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ليس له من دنياه وآخرته إلا ما جعلت له ". وروي في الإسرائيليات: أن رجلاً مر بكثبان من رمل في مجاعة فقال في نفسه: لو كان هذا الرمل طعاماً لقسمته بين الناس فأوحى الله تعالى إلى نبيهم أن قل له إن الله تعالى قد قبل صدقتك وقد شكر حسن نيتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاماً فتصدقت به. وقد ورد في أخبار كثيرة: " من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ". وفي حديث عبد الله بن عمرو: " من كانت الدنيا نيته جعل الله فقره بين عينيه وفارقها أرغب ما يكون فيها ومن تكن الآخرة نيته جعل الله تعالى غناه في قلبه وجمع عليه ضيعته وفارقها أزهد ما يكون فيها ". وفي حديث أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر جيشاً يخسف بهم البيداء فقلت: يا رسول الله أيكون فيهم المكره والأجير فقال: " يحشرون على نياتهم ". وقال عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما يقتتل المقتتلون على النيات ". وقال عليه السلام: " إذا التقى الصفان نزلت الملائكة تكتب الخلق على مراتبهم فلان يقاتل للدنيا فلان يقاتل حمية فلان يقاتل عصبية ألا فلا تقولوا فلان قتل في سبيل الله فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ". وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يبعث كل عبد على ما مات عليه ". وفي حديث الأحنف عن أبي بكرة: " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال: " لأنه أراد قتل صاحبه ". وفي حديث أبي هريرة: " من تزوج امرأة على صداق وهو لا ينوي أداءه فهو زان ومن أدان ديناً وهو لا ينوي قضاءه فهو سارق ". وقال صلى الله عليه وسلم: " من تطيب لله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك وأما الآثار: فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله تعالى والورع عما حرم الله تعالى وصدق النية فيما عند الله تعالى. وكتب سالم بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز: اعلم أن عون الله تعالى للعبد على قدر النية فمن تمت نيته تم عون الله له وإن نقصت نقص بقدره. وقال بعض السلف: رب عمل صغير تعظمه النية ورب عمل كبير تصغره النية. وقال داود الطائي: البر همته التقوى فلو تعلقت جميع جوارحه بالدنيا لردته نيته يوماً إلى نية صالحة وكذلك الجاهل بعكس ذلك. وقال الثوري: كانوا يتعلمون النية للعمل كما تتعلمون العمل. وقال بعض العلماء: اطلب النية للعمل قبل العمل وما دمت تنوي الخير فأنت بخير. وكان بعض المريدين يطوف على العلماء يقول: من يدلني على عمل لا أزال فيه عاملاً لله تعالى فإني لا أحب أن يأتي علي ساعة من ليل أو نهار إلا وأنا عامل من عمال الله فقيل له: قد وجدت حاجتك فاعمل الخير ما استطعت فإذا فترت أو تركته فهم بعمله فإن الهام بعمل الخير كعامله. وكذلك قال بعض السلف: وإن نعمة الله عليكم أكثر من أن تحصوها وإن ذنوبكم أخفى من أن وقال عيسى عليه السلام: طوبى لعين نامت ولا تهم بمعصية وانتبهت إلى غير إثم. وقال أبو هريرة: يبعثون يوم القيامة على قدر نياتهم. وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ " ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم " يبكي ويرددها ويقول إنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا. وقال الحسن: إنما خلد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار بالنيات. وقال أبو هريرة: مكتوب في التوراة: ما أريد به وجهي فقليله كثير وما أريد به غيري فكثيره قليل. وقال بلال بن سعد: إن العبد ليقول قول مؤمن فلا يدعه الله عز وجل وقوله حتى ينظر في عمله فإذا عمل لم يدعه الله حتى ينظر في ورعه فإن تورع لم يدعه حتى ينظر ماذا نوى فإن صلحت نيته فبالحري أن يصلح ما دون ذلك فإذن عماد الأعمال النيات فالعمل مفتقر إلى النية لصير بها خيراً والنية في نفسها خير وإن تعذر العمل بعائق. اعلم أن النية والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحد وهو حالة وصفة للقلب يكتنفها أمران: علم وعمل العلم يقدمه لأنه أصله وشرطه والعمل يتبعه لأنه ثمرته وفرعه وذلك لأن كل عمل أعني كل حركة وسكون اختياري فإنه لا يتم إلا بثلاثة أمور: علم وإرادة وقدرة. لأنه لا يريد الإنسان ما لا يعلمه فلا بد وأن يعلم ولا يعمل ما لم يرد فلا بد من إرادة. ومعنى الإرادة انبعاث القلب إلى ما يراه موافقاً للغرض إما في الحال أو في المآل فقد خلق الإنسان بحيث يوافقه بعض الأمور ويلائم غرضه ويخالفه بعض الأمور فيحتاج إلى جلب الملائم الموافق إلى نفسه ودفع الضار المنافي عن نفسه فافتقر بالضرورة إلى معرفة وإدراك للشيء المضر والنافع حتى يجلب هذا ويهرب من هذا فإن من لا يبصر الغذاء ولا يعرفه لا يمكنه أن يتناول ومن لا يبصر النار لا يمكنه الهرب منه فخلق الله الهداية والمعرفة وجعل لها أسباباً وهي الحواس الظاهرة والباطنة - وليس ذلك من غرضنا - ثم لو أبصر الغذاء وعرف أنه موافق له فلا يكفيه ذلك لنتناول ما لم يكن فيه ميل إليه ورغبة فيه وشهوة له باعثة عليه إذا المريض يرى الغذاء ويعلم أنه موافق ولا يمكنه التناول لعدم الرغبة والميل ولفقد الداعية المحركة إليه فخلق الله تعالى له الميل والرغبة والإرادة - وأعني به نزوعاً في نفسه إليه وتوجهاً في قلبه إليه - ثم ذلك لا يكفيه من مشاهد طعاماً راغب فيه مريد تناوله عاجز عنه لكونه زمناً فخلقت له القدرة والأعضاء المتحركة حتى يتم به التناول والعضو لا يتحرك إلا بالقدرة والقدرة تنتظر الداعية الباعثة والداعية تنتظر العلم والمعرفة أو الظن والاعتقاد وهو أن يقوى في نفسه كون الشيء موافقاً له فإذا جزمت المعرفة بأن الشيء موافق ولا بد وأن يفعل وسمت عن معارضة باعث آخر صارف عنه انبعثت الإرادة وتحقق الميل فإذا انبعثت الإرادة انتهضت القدرة لتحريك الأعضاء فالقدرة خادمة للإرادة والإرادة تابعة لحكم الاعتقاد والمعرفة. فالنية عبارة عن الصفة المتوسطة وهي الإرادة وانبعاث النفس بحكم الرغبة والميل إلى ما موافق للغرض إما في الحال وإما في المآل. فالمحرك الأول هو الغرض المطلوب وهو الباعث والغرض الباعث هو المقصد المنوي والانبعاث هو القصد والنية وانتهاض القدرة لخدمة الإرادة بتحريك الأعضاء هو العمل إلا أن انتهاض القدرة للعمل قد يكون بباعث واحد وقد يكون بباعثين اجتمعا في فعل واحد. وإذا كان بباعثين فقد يكون كل واحد بحيث لو انفرد لكان ملياً بإنهاض القدرة وقد يكون كل واحد قاصراً عنه إلا بالاجتماع وقد يكون أحدهما كافياً لولا الآخر لكن الآخر انتهض عاضداً له ومعاوناً. فيخرج من هذا القسم أربعة أقسام: فلنذكر لكل واحد مثالاً واسماً. أما الأول: فهو أن ينفرد الباعث الواحد ويتجرد كما إذا هجم على الإنسان سبع فكلما رآه قام من موضعه فلا مزعج له إلا غرض من الهرب من السبع فإنه رأى السبع وعرفه ضاراً فانبعثت نفسه إلى الهرب ورغبت فيه فانتهضت القدرة عاملة بمقتضى الانبعاث فيقال: نيته الفرار من السبع لا نية له في القيام لغيره. وهذه النية تسمى خالصة ويسمى العمل بموجبها إخلاصاً بالإضافة إلى الغرض الباعث ومعناه أنه خلص عن مشاركة غيره وممازجته. وأما الثاني: فهو أن يجتمع باعثان كل واحد مستقل بالإنهاض لو انفرد ومثاله من المحسوس أن يتعاون رجلان على حمل شيء بمقدار من القوة كان كافياً في الحمل لو انفرد. ومثاله في غرضنا أن يسأله قريبه الفقير حاجة فيقضيها لفقره وقرابته وعلم أنه لولا فقره لكان يقضيها بمجرد القرابة وأنه لولا قرابته لكان يقضيها بمجرد الفقر وعلم ذلك من نفسه بأنه يحضره قريب غني فيرغب في قضاء حاجته وفقيرا أجنبي فيرغب أيضاً فيه وكذلك من أمره الطبيب بترك الطعام ودخل عليه يوم عرفة فصام وهو يعلم أنه لو لم يكن يوم عرفة لكان يترك الطعام حمية ولولا الحية لكان يتركه لأجل أنه يوم عرفة وقد اجتمعا جميعاً فأقدم على الفعل وكان الباعث الثاني رفيق الأول فلنسم هذا: مرافقة للبواعث. والثالث: أن لا يستقل كل واحد لو انفرد ولكل قوى مجموعهما على إنهاض القدرة. ومثاله في المحسوس أن يتعاون ضعيفان على حمل ما لا ينفرد أحدهما به ومثاله غرضنا أن يقصد قريبه الغني فيطلب درهماً فلا يعطيه ويقصده الأجنبي الفقير فيطلب درهماً فلا يعطيه ثم يقصده القريب فيعطيه فيكون انبعاث داعيته بمجموع الباعثين وهو القرابة والفقر. وكذلك الرجل يتصدق بين يدي الناس لغرض الثواب ولغرض الثناء ويكون بحيث لو كان منفرداً لكان لا يبعثه مجرد قصد الثواب على العطاء ولو كان الطالب فاسقاً لا ثواب في التصدق عليه لكان لا يبعثه مجرد الرياء على العطاء ولو اجتمعا أورثا بمجموعهما تحريك القلب. ولنسم هذا الجنس مشاركة. والرابع: أن يكون أحد الباعثين مستقلاً لو انفرد بنفسه والثاني لا يستقل. ولكن لما انضاف إليه لم ينفك عن تأثير بالإعانة والتسهيل. ومثاله في المحسوس أن يعاون الضعيف الرجل القوي على الحمل ولو انفرد القوي لاستقل ولو انفرد الضعيف لم يستقل فإن ذلك بالجملة يسهل العمل ويؤثر في تخفيفه. ومثاله في غرضنا أن يكون للإنسان ورد في الصلاة وعادة في الصدقات فاتفق أن حضر في وقتها جماعة من الناس فصار الفعل أخف علة بسبب مشاهدتهم وعلم من نفسه أنه لو كان منفرداً خالياً لم يفتر عن عمله وعلم أن عمله لو لم يكن طاعة لم يكن مجرد الرياء يحمله عليه فهو شرب تطرق إلى النية ولنسم هذا الجنس المعاونة. فالباعث إما أن يكون رفيقاً أو شريكاً أو معيناً وسنذكر حكمها في باب الإخلاص. والغرض الآن بيان أقسام النيات فإن العمل تابع للباعث عليه فيكتسب الحكم منه. ولذلك قيل: إنما الأعمال بالنيات لأنها تابعة لا حكم لها في نفسها وإنما الحكم للمتبوع. نية المؤمن خير من عمله اعلم أنه قد يظن أن سبب هذا الترجيح أن النية سر لا يطلع عليه إلا الله تعالى والعمل الظاهر ولعمل السر فضل. وهذا صحيح ولكن ليس هو المراد لأنه لو نوى أن يذكر الله بقلبه أو يتفكر في مصالح المسلمين فيقتضي عموم الحديث أن تكون نية التفكر خيراً من التفكر وقد يظن أن سبب الترجيح أن النية تدوم إلى آخر العمل والأعمال لا تدوم وهو ضعيف لأن ذلك يرجع معناه إلى أن العمل الكثير خير من القليل بل ليس كذلك فإن نية أعمال الصلاة قد لا تدوم إلا في لحظات معدودة والأعمال تدوم والعموم يقتضي أن تكون نيته خيراً من عمله. وقد يقال: إن معناه أن النية بمجردها خير من العمل بمجرده دون النية وهو كذلك ولكنه بعيد أن يكون هو المراد إذ العمل بلا نية أو على الغفلة لا خير فيه أصلاً والنية بمجردها خير وظاهر الترجيح للمشتركين في أصل الخير بل المعنى أن كل طاعة تنتظم بنية وعمل وكانت النية من جملة الخيرات وكان العمل من جملة الخيرات ولكن النية من جملة الطاعة خير من العمل أي لكل واحد منهما أثر في المقصود وأثر في النية أكثر من أثر العمل فمعناه: نية المؤمن من جملة طاعته خير من عمله الذي هو من جملة طاعته والغرض أن للعبد اختياراً في النية وفي العمل فهما عملان والنية من وأما سبب كونها خيراً ومترجحة على العمل فلا يفهمه إلا من فهم مقصد الدين وطريقه ومبلغ أثر الطريق في الاتصال إلى المقصد وقاس بعض الآثار بالبعض حتى يظهر له بعد ذلك الأرجح بالإضافة إلى المقصود. فمن قال: الخبز خير من الفاكهة فإنما يعني به أنه خير بالإضافة إلى مقصود القوت والاغتذاء ولا يفهم ذلك إلا من فهم أن للغذاء مقصداً وهو الصحة والبقاء وأن الأغذية مختلفة الآثار فيها وفهم أثر كل واحد وقاس بعضها بالبعض فالطاعات غذاء للقلوب والمقصود شفاؤها وبقاؤها وسلامتها في الآخرة وسعادتها وتنعمها بلقاء الله تعالى فالمقصد لذة السعادة بلقاء الله فقط ولن يتنعم بلقاء الله إلا من مات محباً لله تعالى عارفاً بالله ولن يحبه إلا من عرفه ولن يأنس بربه إلا من طال ذكره له فالآنس يحصل بدوام الذكر والمعرفة تحصل بدوام الفكر والمحبة تتبع المعرفة بالضرورة ولن يتفرغ القلب لدوام الذكر والفكر إلا إذا فرغ من شواغل الدنيا ولن يتفرغ من شواغلها إلا إذا انقطع عنه شهواتها حتى يصير مائلاً إلى الخير مريداً له نافراً عن الشر مبغضاً له وإنما يميل إلى الخيرات والطاعات إذا علم أن سعادته في الآخرة منوطة بها كما يميل العاقل إلى الفصد والحجامة لعلمه بأن سلامته فيهما وإذا حصل أصل الميل بالمعرفة فإنما يقوى بالعمل بمقتضى الميل والمواظبة عليه فإن المواظبة على مقتضى صفات القلب وأرادتها بالعمل تجري مجرى الغذاء والقوت لتلك الصفة حتى تترشح الصفة وتقوى بسببها. فالمائل إلى طلب العلم أو الرياسة لا يكون ميله في الابتداء إلا ضعيفاً فإن اتبع مقتضى الميل واشتغل بالعلم وتربية الرياسة والأعمال المطلوبة لذلك تأكيد ميله ورسخ وعسر عليه النزوع وإن خالف مقتضى ميله ضعف ميله وانكسر وربما زال وانمحق بل الذي ينظر إلى وجه حسن مثلاً فيميل إليه طبعه ميلاً ضعيفاً لو تبعه وعمل بمقتضاه فداوم على النظر والمجالسة والمخالطة والمحاورة تأكد ميله حتى يخرج أمره عن اختياره فلا يقدر على النزوع عنه ولو فطم نفسه ابتداء وخالف مقتضى ميله لكان ذلك كقطع القوت والغذاء عن صفة الميل ويكون ذلك زبراً ودفعاً في وجهه حتى يضعف وينكسر بسببه وينقمع وينمحي. وهكذا جميع الصفات والخيرات والطاعات كلها هي التي تراد بها الآخرة والشرور كلها هي التي تراد بها الدنيا لا الآخرة. وميل النفس إلى الخيرات الأخروية وانصرافها عن الدنيوية هو الذي يفرغها للذكر والفكر ولن يتأكد ذلك إلا بالمواظبة على أعمال الطاعة وترك المعاصي بالجوارح لأن بين الجوارح وبين القلب علاقة حتى إنه يتأثر كل واحد منهما بالآخر فترى العضو إذا أصابته جراحة تألم بها القلب وترى القلب إذا تألم بعلمه بموت عزيز من أعزته أو بهجوم أمر مخوف تأثرت به الأعضاء وارتعدت الفرائض وتغير اللون إلا أن القلب هو الأصل المتبوع فكأنه الأمير والراعي والجوارح كالخدم والرعايا والأتباع. فالجوارح خادمة للقلب بتأكيد صفاتها فيه فالقلب هو المقصود والأعضاء آلات موصلة إلى المقصود ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ". وقال عليه الصلاة والسلام: " اللهم أصلح الراعي والرعية ". وأراد بالراعي القلب. وقال الله تعالى: " لن ينال لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم " وهي صفة القلب. فمن هذا الوجه يجب لا محالة أن تكون أعمال القلب على الجملة أفضل من حركات الجوارح. ثم يجب أن تكون النية من جملتها أفضل لأنها عبارة عن ميل القلب إلى الخير وإرادته له. وغرضنا من الأعمال بالجوارح أن يعود القلب إرادة الخير ويؤكد فيه الميل إليه ليفرغ من شهوات الدنيا ويكب على الذكر والفكر. فبالضرورة يكون خيراً بالإضافة إلى الغرض لأنه متمكن من نفس المقصود وهذا كما أن المعدة إذا تألمت فقد تداوى بأن يوضع الطلاء على الصدر وتداوى بالشرب والدواء الواصل إلى المعدة فالشرب خير من طلاء الصدر لأن طلاء الصدر أيضاً إنما أريد به أن يسري منه الأثر إلى المعدة فما يلاقي عين المعدة فهو خير وأنفع. فهكذا ينبغي أن تفهم تأثير الطاعات كلها إذ المطلوب منها تغيير القلوب وتبديل صفاتها فقط دون الجوارح فلا تظنن أن في وضع الجبهة على الأرض غرضاً من حيث إنه جمع بين الجبهة والأرض بل من حيث إنه بحكم العادة يؤكد صفة التواضع في القلب فإن من يجد في نفسه تواضعاً فإذا استكان بأعضائه وصورها بصورة التواضع تأكد تواضعه ومن وجد في قلبه رقة على يتيم فإذا مسح رأسه وقبله تأكد الرقة في قلبه ولهذا لم يكن العمل بغير نية مفيد أصلاً لأن من يمسح رأس يتيم وهو غافل أو ظان أنه يمسح ثوباً - لم ينتشر من أعضائه أثر إلى قلبه لتأكيد الرقة وكذلك من يسجد غافلاً وهو مشغول الهم بأعراض الدنيا لم ينتشر من جبهته ووضعها على الأرض أثر إلى قلبه يتاكد به التواضع فكان وجود ذلك كعدمه وما ساوى وجوده عدمه بالإضافة إلى الغرض المطلوب منه يسمى باطلاً فيقال: العبادة بغير نية باطلة وهذا معناه إذا فعل عن غفلة فإذا قصد به رياء أو تعظيم شخص آخر لم يكن وجوده كعدمه بل زاده شراً فإنه لم يؤكد الصفة المطلوب تأكيدها حتى أكد الصفة المطلوب قمعها وهي صفة الرياء التي هي من الميل إلى الدنيا. فهذا وجه كون النية خير من العمل. وبهذا أيضاً يعرف معنى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: " من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة " لأن هم القلب هو ميله إلى الخير وانصرافه عن الهوى وحب الدنيا وهي غاية الحسنات وإنما الإتمام بالعمل يزيدها تأكيداً فليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم بل ميل القلب عن حب الدنيا وبذلها إيثاراً لوجه الله تعالى وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة وإن عاق عن العمل عائق ف " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم " والتقوى ههنا صفة القلب ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: " إن قوماً بالمدينة قد شركونا في جهادنا " - كما تقدم ذكره - لأن قلوبهم في صدق إرادة الخير وبذل المال والنفس والرغبة في طلب الشهادة وإعلاء كلمة الله تعالى كقلوب الخارجين في الجهاد وإنما فارقوهم بالأبدان لعوائق تخص الأسباب الخارجة عن القلب وذلك غير مطلوب إلا لتأكيد هذه الصفات. وبهذه المعاني تفهم جميع الأحاديث التي أوردناه في فضيلة النية فاعرضها عليها لينكشف لك أسرارها فلا تطول بالإعادة. اعلم أن الأعمال وإن انقسمت أقساماً كثيرة من فعل وقول وحركة وسكون وجلب ودفع وفكر وذكر وغير ذلك مما لا يتصور إحصاؤه واستقصاؤه - فهي ثلاثة أقسام: معاص وطاعات ومباحات. القسم الأول: المعاصي وهي لا تتغير عن موضعها بالنية فلا ينبغي أن يفهم الجاهل ذلك من عموم قوله عليه السلام: " إنما الأعمال بالنيات " فيظن أن المعصية تنقلب طاعة بالنية كالذي يغتاب إنساناً مراعاة لقلب غيره أو يطعم فقيراً من مال غيره أو يبني مدرسة أو مسجداً أو رباطاً بمال حرام وقصده الخير. فهذا كله جهل والنية لا تؤثر في إخراجه عن كونه ظلماً وعدواناً ومعصية بل قصده الخير بالشر - على خلاف مقتضى الشرع - شر آخر فإن عرفه فهو معاند للشرع وإن جهله فهو عاص بجهله إذ طلب العلم فريضة على كل مسلم والخيرات إنما يعرف كونها خيرات للشرع فكيف يمكن أن يكون الشر خير هيهات بل المروج لذلك على القلب خفي الشهوة وباطن الهوى فإن القلب إذا كان مائلاً إلى طلب الجاه واستمالة قلوب الناس وسائر حظوظ النفس توسل الشيطان به إلى التلبيس على الجاهل ولذلك قال سهل رحمه الله تعالى: ما عصي الله تعالى بمعصية أعظم من الجهل! قيل: يا أبا محمد هل تعرف شيئاً أشد من الجهل قال: نعم الجهل بالجهل. وهو كما قال لأن الجهل بالجهل يسد بالكلية باب التعلم فمن يظن بالكلية بنفسه أنه عالم فكيف يتعلم وكذلك أفضل ما أطيع الله تعالى به العلم ورأس العلم: العلم بالعلم كما أن رأس الجهل: الجهل بالجهل فإن من لا يعلم العلم النافع من العلم الضار اشتغل بما أكب الناس عليه من العلوم المزخرفة التي هي وسائلهم إلى الدنيا وذلك هو مادة الجهل ومنبع فساد العلم والمقصود أن من قصد الخير بمعصية عن جهل فهو غير معذور إلا إذا كان قريب العهد بالإسلام ولم يجد بعد مهلة للتعلم وقد قال اللهسبحانه: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يعذر الجاهل على الجهل ولا يحل ويقرب من تقرب السلاطين ببناء المساجد والمدارس بالمال الحرام تقرب العلماء السوء بتعليم العلم للسفهاء والأشرار المشغولين بالفسق والفجور القاصرين هممهم على مماراة العلماء ومباراة السفهاء واستمالة وجوه الناس وجمع حطام الدنيا وأخذ أموال السلاطين واليتامى والمساكين فإن هؤلاء إذا تعلموا كانوا قطاع طريق الله تعالى وانتهض كل واحد منهم في بلدته نائباً عن الدجال يتكالب على الدنيا ويتبع الهوى عن التقوى ويستجرئ الناس بسبب مشاهدته على معاصي الله تعالى ثم قد ينتشر ذلك العلم إلى مثله وأمثاله ويتخذونه أيضاً آلة ووسيلة في الشر وإتباع الهوى. ويتسلسل ذلك ووبال جميعه يرجع إلى المعلم الذي علمه العلم مع علمه بفساد نيته وقصده ومشاهدته أنواع المعاصي من أقواله وأفعاله وفي مطعمه وملبسه ومسكنه فيموت هذا العالم وتبقى آثار شره منتشرة في العالم ألف سنة مثلاً وألفي سنة وطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه ثم العجب من جهله حيث يقول: " إنما الأعمال بالنيات " وقد قصدت بذلك نشر علم الدين فإن استعماله هو الفساد فالمعصية منه لا مني وما قصدت به إلا أن يستعين به على الخير. وإنما حب الرياسة والاستتباع والتفاخر بعلو العلم يحسن ذلك في قلبه والشيطان بواسطة حب الرياسة يلبس عليه. وليت شعري ما جوابه عمن وهب سيفاً من قاطع طريق وأعد له خيلاً وأسباباً يستعين بها على مقصوده ويقول إنما أردت الذل والسخاء والتخلق بأخلاق الله الجميلة وقصدت به أن يغزو بهذا السيف والفرس في سبيل الله تعالى فإن إعداد الخيل والرباط والقوة للغزاة من أفضل القربات فإن صرفه إلى قطع الطريق فهو العاصي. وقد أجمع الفقهاء على أن ذلك حرام مع أن السخاء هو أحب الأخلاق إلى الله تعالى حتى قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " إن لله تعالى ثلثمائة خلق من تقرب إليه بواحد منها دخل الجنة وأحبها إليه السخاء ". فليت شعري لم حرم هذا السخاء ولم وجب عليه أن ينظر إلى قرينه الحال من هذا الظالم فإذا لاح له من عادته أنه يستعين بالسلاح على الشر فينبغي أن يسعى في سلب سلاحه لا أن يمده بغيره والعلم سلاح يقاتل به الشيطان وأعداء الله تعالى وقد يعاون به أعداء الله عز وجل وهو الهوى! فمن لا يزال مؤثراً لدنياه على دينه ولهواه على آخرته وهو عاجز عنها لقلة فضله فكيف يجوز إمداده بنوع علم يتمكن به من الوصول إلى شهواته بل لم يزل علماء السلف رحمهم الله تعالى يتفقدون أحوال من يتردد إليهم فلو رأوا منه تقصير في نفل من النوافل أنكروه وتركوا إكرامه وإذا رأوا منه فجوراً واستحلال حرام هجروه ونفوه عن مجالسهم وتركوا تكليمه فضلاً عن تعليمه لعلمهم بأن من تعلم مسألة ولم يعمل بها وجاوزها إلى غيرها فليس يطلب إلا آلة الشر وقد تعوذ جميع السلف بالله تعالى من الفاجر العالم بالسنة وما تعوذوا من الفاجر الجاهل حكي عن بعض أصحاب أحمد بن حنبل رحمه الله انه كان يتردد إليه سنين ثم اتفق أن أعرض عنه أحمد وهجره وصار لا يكلمه فلم يزل يسأله عن تغيره عليه وهو لا يذكره حتى قال: بلغني أنك طينت حائط دارك من جانب الشارع وقد أخذت قدر سمك الطين وهو أنملة من شارع المسلمين فلا تصلح لنقل العلم. فهكذا كانت مراقبة السلف لأحوال طلاب العلم وهذا وأمثاله مما يلتبس على الأغبياء وأتباع الشيطان وإن كانوا أرباب الطيالسة والأكمام الواسعة وأصحاب الألسنة الطويلة والفضل الكثير أعني الفضل من العلوم التي لا تشتمل على التحذير من الدنيا والزجر عنها والترغيب في الآخرة والدعاء إليها بل هي العلوم التي تتعلق بالخلق ويتوصل بها إلى جمع الحطام واستتباع الناس والتقدم على الأقران. فإذن قوله عليه السلام: " إنما الأعمال بالنيات " يختص من الأقسام الثلاثة بالطاعات والمباحات دون المعاصي إذ الطاعة تنقلب معصية بالقصد والمباح ينقلب معصية وطاعة بالقصد فأما المعصية فلا تنقلب طاعة بالقصد أصلاً نعم للنية دخل فيها وهو أنه إذا انضاف إليها قصود خبيثة تضاعف وزرها وعظم وبالها - كما ذكرنا ذلك في كتاب التوبة.
القسم الثاني: الطاعات وهي مرتبطة بالنيات في أصل صحتها وفي تضاعف فضلها. أما الأصل: فهو أن ينوي بها عبادة الله تعالى لا غير فإن نوى الرياء صارت معصية وأما تضاعف الفضل: فبكثرة النيات الحسنة فإن الطاعة الواحدة يمكن أن ينوي بها خيرات كثيرة فيكون له بكل ومثاله القعود في المسجد فإنه طاعة ويمكن أن ينوي فيه نيات كثيرة حتى يصير من فضائل أعمال المتقين ويبلغ به درجات المقربين: أولها أن يعتقد أنه بيت الله وأن داخله زائر الله فيقصد به زيارة مولاه رجاء لما وعد به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: " من قعد في المسجد فقد زار الله تعالى وحق على المزور أن يكرم زائره ". وثانيها: أن ينتظر الصلاة بعد الصلاة فيكون في جملة انتظاره في الصلاة وهو معنى قوله تعالى " ورابطوا ". وثالثها: الترهب بكف السمع والبصر والأعضاء عن الحركات والترددات فإن الاعتكاف كف - وهو في معنى الصوم - وهو نوع ترهب ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رهبانية أمتي القعود في المساجد ". ورابعها: عكوف الهم على الله ولزوم السر للفكر في الآخرة ودفع الشواغل الصارفة عنه بالاعتزال إلى المسجد. وخامسها: التجرد لذكر الله أو لاستماع ذكره وللتذكر به كما روي في الخبر " من غدا إلى المسجد ليذكر الله تعالى أو يذكرها به كان كالمجاهد في سبيل الله تعالى ". وسادسها: أن يقصد إفادة العلم بأمر بمعروف ونهي عن منكر إذ المسجد لا يخلو عمن يسيء في صلاته أو يتعاطى ما لا يحل له فيأمره بالمعروف ويرشده إلى الدين فيكون شريكاً معه في خيره الذي يعلم منه فتتضاعف خيراته. وسابعها: أن يستفيد أخاً في الله فإن ذلك غنيمة وذخيرة للدار الآخرة والمسجد معشش أهل الدين المحبين لله وفي الله. وثامنها: أن يترك الذنوب حياء من الله تعالى وحياء من أن يتعاطى في بيت الله ما يقتضي هتك الحرمة وقد قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: من أدمن الاختلاف إلى المسجد رزقه الله إحدى سبع خصال: أخاً مستفاداً في الله أو رحمة مستنزلة أو علماً مستظرفاً أو كلمة تدل على هدى أو تصرفه عن ردى أو يترك الذنوب خشية أو حياء. فهذا طريق تكثير النيات وقس به سائر الطاعات والمباحات إذ ما من طاعة إلا وتحتمل نيات كثيرة وإنما تحضر في قلب العبد المؤمن بقدر جده في طلب الخير وتشمره له وتفكره فيه. فبهذا تزكوا الأعمال وتتضاعف الحسنات. القسم الثالث: المباحات وما من شيء من المباحات إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات وينال بها معالي الدرجات فما أعظم خسران من يغفل عنها ويتعاطاه تعاطي البهائم المهملة عن سهو وغفلة ولا ينبغي أن يستحقر العبد شيئاً من الخطرات والخطوات واللحظات فكل ذلك يسأل عنه يوم القيامة أنه لم فعله وما الذي قصد به هذا في مباح محض لا يشوبه كراهة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " حلالها حساب وحرامها عقاب ". وفي حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن العبد ليسأل يوم القيامة عن كل شيء حتى عن كحل عينيه وعن فتات الطينة بإصبعيه وعن لمسه ثوب أخيه ". وفي خبر آخر " من تطيب لله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك ومن تطيب لغير الله تعالى جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة " فاستعمال الطيب مباح ولكن لا بد فيه من نية. فإن قلت: فما الذي يمكن أن ينوي بالطيب وهو حظ من حظوظ النفس وكيف يتطيب لله فاعلم أن من يتطيب مثلاً يوم الجمعة وفي سائر الأوقات يتصور أن يقصد التنعم بلذات الدنيا أو يقصد به إظهار التفاخر بكثرة المال ليحسده الأقران أو يقصد به رياء الخلق ليقوم له الجاه في قلوبهم ويذكر بطيب الرائحة أو ليتودد به إلى قلوب النساء الأجنبيات إذا كان مستحيلاً للنظر إليهن ولأمور أخرى لا تحصى. وكل هذا يجعل التطيب معصية فبذلك يكون أنتن من الجيفة في القيامة إلا القصد الأول وهو التلذذ والتنعم فإن ذلك ليس بمعصية إلا أنه يسأل عنه ومن نوقش الحساب عذب ومن أتى شيئاً من مباح الدنيا لم يعذب عليه في الآخرة ولكن ينقص من نعيم الآخرة له بقدره وناهيك خسراناً بأن يستعجل ما يفنى ويخسر زيادة نعيم لا يفنى. وأما النية الحسنة فإنه ينوي به إتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وينوي بذلك أيضاً تعظيم المسجد واحترام بيت الله فلا يرى أن يدخله زائراً لله إلا طيب الرائحة وأن يقصد به ترويح جيرانه ليستريحوا في المسجد عند مجاورته بروائحه وأن يقصد به دفع الروائح الكريهة عن نفسه التي تؤدي إلى إيذاء مخالطيه وأن يقصد جسم باب الغيبة عن المغتابين إذا اغتابوه بالروائح الكريهة فيعصون الله بسببه فمن تعرض للغيبة وهو قادر على الاحتراز منها فهو شريك في تلك المعصية كما قيل: إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون هم وقال الله تعالى " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم " أشار به إلى أن التسبب إلى الشر شر وأن يقصد به معالجة دماغه لتزيد به فطنته وذكاؤه ويسهل عليه درك مهمات دينه بالفكر فقد قال الشافعي رحمه الله: من طاب ريحه زاد عقله فهذا وأمثاله من النيات لا يعجز الفقيه عنها إذا كانت تجارة الآخرة وطلب الخير غالبة على قلبه. وإذا لم يغلب على قلبه إلا نعيم الدنيا لم تحضره هذه النيات وإن ذكرت له لم ينبعث لها قلبه فلا يكون معه والمباحات كثيرة ولا يمكن إحصاء النيات فيها فقس بهذا الواحد ما عداه ولهذا قال بعض العارفين من السلف: إني أستحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في أكلي وشربي ونومي ودخولي إلى الخلاء وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب من مهمات البدن فهو معين على الدين فمن قصده من الأكل التقوى على العبادة ومن الوقاع تحصين دينه وتطييب قلب أهله والتوصل به إلى نسل صالح يعبد الله تعالى بعده فتكثر به أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان مطيعاً بأكله ونكاحه وأغلب حظوظ النفس الأكل والوقاع وقصد الخير بهما غير ممتنع لمن غلب على قلبه هم الآخرة ولذلك ينبغي أن يحسن نيته مهما ضاع له مال ويقول هو في سبيل الله وإذا بلغه اغتياب غيره فليطيب قلبه بأنه سيحمل سيآته وستنتقل إلى ديوانه حسناته ولينوي ذلك بسكوته عن الجواب. ففي الخبر " إن العبد ليحاسب فتبطل أعماله لدخول الآفة فيها حتى يستوجب النار ثم ينشر له من الأعمال الصالحة ما يستوجب به الجنة فيتعجب ويقول: يا رب هذه أعمال ما عملتها قط فيقال: هذه أعمال الذين اغتابوك وآذوك وظلموك ". وفي الخبر " إن العبد ليوافى يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال لو خلصت له لدخل الجنة فيأتي وقد ظلم هذا وشتم هذا وضرب هذا فيقتص لهذا من حسناته ولهذا من حسناته حتى لا يبقى له حسنة. فتقول الملائكة: قد فنيت حسناته وبقي طالبون فيقول الله تعالى: ألقوا عليه من سيآتهم ثم صكوا له صكاً إلى النار " وبالجملة فإياك ثم إياك أن تستحقر شيئاً من حركاتك فلا تحترز من غرورها وشرورها ولا تعد جوابها يوم السؤال والحساب فإن الله تعالى مطلع عليك وشهيد " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ". وقال بعض السلف: كتبت كتاباً وأردت أن أتربه من حائط جار لي فتحرجت ثم قلت: تراب وما تراب! فتربته فتهتف بي هاتف: سيعلم من استخف بتراب جاره ما يلقى غداً من سوء الحساب. وصلى رجل مع الثوري فرآه مقلوب الثوب فعرفه فمد يده ليصلحه ثم قبضها فلم يسوه فسأله عن ذلك فقال: إني لبسته لله تعالى ولا أريد أن أسويه لغير الله. وقد قال الحسن: إن الرجل ليتعلق بالرجل يوم القيامة فيقول: بيني وبينك الله! فيقول: والله ما أعرفك فيقول: بلى أنت أخذت لبنة من حائطي وأخذت خيطاً من ثوبي!. فهذا وأمثاله من الأخبار قطع قلوب الخائفين فإن كنت من أولي العزم والنهي ولم تكن من المغترين فانظر لنفسك الآن ودقق الحساب على نفسك قبل أن يدقق عليك. وراقب أحوالك ولا تسكن ولا تتحرك ما لم تتأمل أولاً أنك لم تتحرك وماذا تقصد وما الذي تنال به من الدنيا وما الذي يفوتك من الآخرة وبماذا ترجح الدنيا على الآخرة فإذا علمت أنه لا باعث إلا الدين فأمض عزمك وما خطر ببالك وإلا فأمسك ثم راقب أيضاً قلبك في إمساكك وامتناعك فإن ترك الفعل فعل ولا بد له من نية صحيحة فلا ينبغي أن يكون الداعي هوى خفي لا يطلع عليه ولا يغرنك ظواهر الأمور ومشهورات الخيرات وافطن للأغوار والأسرار تخرج من حيز أهل الاغترار. فقد روي عن زكريا عليه السلام أنه كان يعمل في حائط بالطين وكان أجيراً لقوم فقدموا له رغيفاً - إذا كان لا يأكل إلا من كسب يده - فدخل عليه قوم فلم يدعهم إلى الطعام حتى فرغ فتعجبوا منه لما علموا من سخائه وزهده وظنوا أن الخير في طلب المساعدة في الطعام فقال: إني أعمل لقوم بالأجرة وقدموا إلي الرغيف لأتقوى به على عملهم فلو أكلتم معي لم يكفكم ولم يكفني وضعفت عن عملهم. فالبصير هكذا ينظر في البواطن بنور الله فإن ضعفه عن العمل نقص في فرض وترك الدعوة إلى الطعام نقص في فضل ولا حكم للفضائل مع الفرائض. وقال بعضهم: دخلت على سفيان وهو يأكل فما كلمني حتى لعق أصابعه ثم قال: لولا أني أخذته بدين لأحببت أن تأكل منه. وقال سفيان: من دعا رجلاً إلى طعامه وليس له رغبة أن يأكل منه فإن أجابه فأكل فعليه وزران وإن لم يأكل فعليه وزر واحد. وأراد بأحد الوزرين النفاق وبالثاني تعريضه أخاه لما يكره لو علمه. فهكذا ينبغي أن يتفقد العبد نيته في سائر الأعمال فلا يقدم ولا يحجم إلا بنية فإن لم تحضره النية توقف فإن النية لا تدخل تحت الاختيار. اعلم أن الجاهل يسمع ما ذكرناه من الوصية بتحسين النية وتكثيرها مع قوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات " فيقول في نفسه عند تدريسه أو تجارته أو أكله: نويت أن أدرس لله أو آكل لله ويظن ذلك نية وهيهات! فذلك حديث نفس وحديث لسان وفكر أو انتقال من خاطر إلى خاطر والنية بمعزل من جميع ذلك. وإنما النية انبعاث النفس وتوجهها وميلها إلى ما ظهر لها أن فيه غرضها إما عاجلاً وإما آجلاً. والميل إذا لم يكن لا يمكن اختراعه واكتسابه بمجرد الإرادة بل ذلك كقول الشبعان: نويت أن أشتهي الطعام وأميل إليه أو قول الفارغ: نويت أن أعشق فلاناً وأحبه وأعظمه بقلبي فذلك محال. بل لا طريق إلى اكتساب صرف القلب إلى الشيء وميله إليه وتوجهه نحوه إلا باكتساب أسبابه وذلك مما قدم يقدر عليه وقد لا يقدر عليه. وإنما تنبعث النفس إلى الفعل إجابة للغرض الباعث الموافق للنفس الملائم لها وما لم يعتقد الإنسان أن غرضه منوط بفعل من الأفعال فلا يتوجه نحوه قصده. وذلك مما لا يقدر على اعتقاده في كل حين وإذا اعتقد فإنما يتوجه القلب إذا كان فارغاً غير مصروف عنه شاغل أقوى منه وذلك لا يمكن في كل وقت والدواعي والصوارف لها أسباب كثيرة بها تجتمع ويختلف ذلك بالأشخاص وبالأحوال وبالأعمال. فإذا غلبت شهوة النكاح مثلاً ولم يعتقد غرضاً صحيحاً في الولد ديناً ولا دنيا لا يمكنه أن يواقع على نية الولد بل لا يمكن إلا على نية قضاء الشهوة إذ النية هي إجابة الباعث ولا باعث إلا الشهوة فكيف ينوي الولد وإذا لم يغلب على قلبه أن إقامة سنة النكاحإتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعظم فضلها لا يمكن أن ينوى بالنكاح إتباع السنة إلا أن يقول ذلك بلسانه وقلبه وهو حديث محض ليس بنية نعم طريق اكتساب هذه النية مثلاً أن يقوي أولاً إيمانه بالشرع ويقوي إيمانه بعظم ثواب من سعى في تكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويدفع عن نفسه جميع المنفرات عن الولد من ثقل المؤنة وطول التعب وغيره فإذا فعل ذلك ربما انبعث من قلبه رغبة إلى تحصيل الولد للثواب فتحركه تلك الرغبة وتتحرك أعضاؤه لمباشرة العقد فإذا انتهضت القدرة المحركة للسان بقبول العقد طاعة لهذا الباعث الغالب على القلب كان ناوياً فإن لم يكن كذلك فما يقدره في نفسه ويردده في قلبه من قصد الولد وسواس وهذيان. ولهذا امتنع جماعة من السلف من جملة من الطاعات إذ لم تحضرهم النية وكانوا يقولون ليس تحضرنا فيه نية حتى إن ابن سيرين لم يصل على جنازة الحسن البصري وقال: ليس تحضرني نية. ونادى بعضهم امرأته وكان يسرح شعره أن هات المدري فقالت: أجيء بالمرآة فسكت ساعة ثم قال: نعم فقيل له في ذلك فقال: كان لي في المدري نية ولم تحضرني في المرآة نية فتوقفت حتى هيأها الله تعالى. ومات حماد بن سليمان - وكان أحد علماء أهل الكوفة - فقيل للثوري: ألا تشهد جنازته فقال: لو كان لي نية لفعلت. وكان أحدهم إذا سئل عملاً من أعمال البر يقول: إن رزقني الله تعالى نية فعلت. وكان طاوس لا يحدث إلا بنية وكان يسأل أن يحدث فلا يحدث ولا يسأل فيبتدئ! فقيل له في ذلك قال: أفتحبون أن أحدث بغير نية إذا حضرتني نية فعلت. وحكي أن داود بن المحبر لما صنف كتاب العقل جاءه أحمد بن حنبل فطلبه منه فنظر فيه أحمد صفحاً ورده فقال: ما لك قال: فيه أسانيد ضعاف فقال له داود: أنا لم أخرجه على الأسانيد فانظر فيه بعين الخبر إنما نظرت فيه بعين العمل فانتفعت قال أحمد: فرده علي حتى وقيل لطاوس: ادع لنا! فقال: حتى أجد له نية. وقال بعضهم: أنا في طلب نية لعيادة رجل منذ شهر فما صحت لي بعد. وقال عيسى بن كثير: مشيت مع ميمون بن مهران فلما انتهى إلى باب داره انصرفت فقال ابنه: ألا تعرض عليه العشاء قال: ليس من نيتي. وهذا لأن النية تتبع النظر فإذا تغير النظر تغيرت النية وكانوا لا يرون أن يعملوا عملاً إلا بنية لعلمهم بأن النية روح العمل وأن العمل بغير نية صادقة رياء وتكلف وهو سبب مقت لا سبب قرب وعلموا أن النية ليست هي قول القائل بلسانه: نويت بل هو انبعاث القلب يجري مجرى الفتوح من الله تعالى فقد تتيسر في بعض الأوقات وقد تتعذر في بعضها نعم من كان الغالب على قلبه أمر الدين تيسر عليه في أكثر الأحوال إحضار النية للخيرات فإن قلبه مائل بالجملة إلى أصل الخير فينبعث إلى التفاصيل غالباً. ومن مال قلبه إلى الدنيا وغلبت عليه لم يتيسر له ذلك بلا لا يتيسر له في الفرائض إلا بجهد جهيد وغايته أن يتذكر النار ويحذر نفسه عقابها أو نعيم الجنة ويرغب نفسه فيها فربما تنبعث له داعية ضعيفة فيكون ثوابه بقدر رغبته ونيته. وأما الطاعة على نية إجلال الله تعالى لاستحقاقه الطاعة والعبودية فلا تتيسر للراغب في الدنيا وهذه أعز النيات وأعلاها ويعز على بسيط الأرض من يفهمها فضلاً عمن يتعاطاها. ونيات الناس في الطاعات أقسام: إذ منهم من يكون عمله إجابة لباعث الخوف فإنه يتقي النار. ومنهم من يعمل إجابة لباعث الرجاء وهو الرغبة في الجنة وهذا وإن كان نازلاً بالإضافة إلى قصد طاعة الله وتعظيمه لذاته ولجلاله لا لأمر سواه فهو من جملة النيات الصحيحة لأنه ميل إلى الموعود في الآخرة وإن كان من جنس المألوفات في الدنيا وأغلب البواعث باعث الفرج والبطن وموضع قضاء وطرهما الجنة فالعامل لأجل الجنة عامل لبطنه وفرجه - كالأجير السوء - ودرجته درجة البله وإنه لينالها بعمله إذ أكثر أهل الجنة البله. وأما عبادة ذوي الألباب فإنها لا تجاوز ذكر الله تعالى والفكر فيه حباً لجماله وجلاله وسائر الأعمال تكون مؤكدات وروادف وهؤلاء أرفع درجة من الالتفات إلى المنكوح والمطعوم في الجنة فإنهم لم يقصدوها بل هم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه فقط وثواب الناس بقدر نياتهم فلا جرم يتنعمون بالنظر إلى وجهه الكريم ويسخرون ممن يلتفت إلى وجه الحور العين كما يسخر المتنعم بالنظر إلى الحور العين ممن يتنعم بالنظر إلى وجه الصور المصنوعة من الطين! بل أشد. فإن التفاوت بين جمال حضرة الربوبية وجمال الحور العين أشد وأعظم كثيراً من التفاوت بين جمال الحور العين والصور المصنوعة من الطين بل استعظام النفوس البهيمية الشهوانية لقضاء الوطر من مخالطة الحسان وإعراضهم عن جمال وجه الله الكريم يضاهي استعظام الخنفساء لصاحبتها وإلفها لها وإعراضها عن النظر إلى جمال وجوه النساء فعمي أكثر القلوب عن إبصار جمال الله وجلاله يضاهي عمى الخنفساء عن إدراك جمال النساء بأنها لا تشعر به أصلاً ولا تلتفت إليه ولو كان لها عقل وذكرن لها لاستحسنت عقل من يلتفت إليهن " ولا يزالون مختلفين - كل حزب بما لديهم فرحون - ولذلك خلقهم ". حكي أن أحمد بن خضرويه رأى ربه عز وجل في المنام فقال له: كل الناس يطلبون مني الجنة إلا أبا يزيد فإنه يطلبني. ورأى أبو يزيد ربه في المنام فقال: يا رب كيف الطريق إليك فقال: اترك نفسك وتعالى إلي. ورؤي الشبلي بعد موته في المنام فقيل له: ما فعل الله بك فقال: لم يطالبني على الدعاوي بالبرهان إلا على قول واحد: قلت يوماً وبأي خسارة أعظم من خسران الجنة فقال: أي خسارة أعظم من خسران لقائي. والغرض من هذه النيات متفاوتة الدرجات ومن غلب على قلبه واحدة منها ربما لا يتيسر له العدول إلى غيرها. ومعرفة هذه الحقائق تورث أعمالاً وأفعالاً لا يستنكرها الظاهريون من الفقهاء. فإنا نقول: من حضرت له نية في مباح ولم تحضر في فضيلة فالمباح أولى وانتقلت الفضيلة إليه وصارت الفضيلة في حقه نقيصة لأن الأعمال بالنيات. وذلك مثل العفو فإنه أفضل من الانتصار في الظالم وربما تحضره نية في الانتصار دون العفو فيكون ذلك أفضل ومثل أن يكون له نية في الأكل والشرب والنوم ليريح نفسه ويتقوى على العبادات في المستقبل وليس تنبعث نيته في الحالين للصوم والصلاة فالأكل والشرب والنوم هو الأفضل له. بل لو مل العبادة لمواظبته عليها وسكن نشاطه وضعفت رغبته وعلم أنه لو ترفه ساعة بلهو وحديث عاد نشاطه فاللهو أفضل له من الصلاة. قال أبو الدرداء: إني لأستجم نفسي بشيء من اللهو فيكون ذلك عوناً لي على الحق. وقال علي كرم الله وجهه: روحوا القلوب فإنها إذا أكرهت عميت. وهذه دقائق لا يدركها إلا سماسرة العلماء دون الحشوية منهم بل الحاذق بالطب قد يعالج المحرور باللحم مع حرارته ويستبعده القاصر في الطب وإنما يبتغي به أن يعيد أولاًً قوته ليحتمل المعالجة بالضد والحاذق في لعب الشطرنج مثلاً قد ينزل عن الرخ والفرس مجاناً ليتوصل بذلك إلى الغلبة والضعيف البصيرة قد يضحك به ويتعجب منه. وكذلك الخبير بالقتال قد يفر بين يدي قرينه ويوليه دبره حيلة منه ليستجره إلى مضيق فيكر عليه فيقهره. فكذلك سلوك طريق الله تعالى كله قتال مع الشيطان ومعالجة للقلب والبصير الموفق يقف فيها على لطائف من الحيل يستبعدها الضعفاء فلا ينبغي للمريد أن يضمر إنكاراً على ما يراه من شيخه ولا للمتعلم أن يعترض على أستاذه بل ينبغي أن يقف عند حد بصيرته وما لا يفهمه من أحوالهما يسلمه لهما إلى أن ينكشف له أسرار ذلك بأن يبلغ رتبتهما وينال درجتهما ومن الله حسن التوفيق. قال الله تعالى " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين. وقال: " ألا لله الدين الخالص ". وقال تعالى: " إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله ". وقال تعالى: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً " نزلت فيمن يعمل لله ويحب أن يحمد عليه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ثلاث لا يغل عليهن قلب رجل مسلم إخلاص العمل لله ". وعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: ظن أبي أن له فضلاً على من هو دونه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما نصر الله عز وجل هذه الأمة بضعفائها ودعوتهم وإخلاصهم ". وعن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى: الإخلاص سر من وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لا تهتموا لقلة العمل واهتموا للقبول فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: " أخلص العمل يجزك منه القليل ". وقال عليه السلام: " ما من عبد يخلص لله العمل أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ". وقال عليه الصلاة والسلام: " أول من يسأل يوم القيامة ثلاثة: رجل آتاه الله العلم فيقول الله تعالى ما صنعت فيما علمت فيقول: يا رب كنت أقوم آناء الليل وأطراف النهار فيقول الله تعالى: كذبت وتقول الملائكة: كذبت بل أردت أن يقال فلان عالم ألا فقد قيل ذلك ورجل آتاه الله مالاً فيقول الله تعالى: لقد أنعمت عليك فماذا صنعت فيقول: يا رب كنت أتصدق به آناء الليل والنهار فيقول الله تعالى: كذبت وتقول الملائكة: كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد ألا فقد قيل ذلك. ورجل قتل في سبيل الله تعالى فيقول الله تعالى: ماذا صنعت فيقول: يا رب أمرت بالجهاد فقاتلت حتى قتلت فيقول الله: كذبت وتقول الملائكة: كذبت بل أردت أن يقال فلان شجاع ألا فقد قيل ذلك ". قال أبو هريرة ثم خبط رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذي وقال: " يا أبا هريرة أولئك أول خلق تسعر نار جهنم بهم يوم القيامة ". فدخل راوي هذا الحديث على معاوية وروى له ذلك فبكى حتى كادت نفسه تزهق ثم قال: صدق الله إذ وفي الإسرائيليات: أن عابداً كان يعبد الله دهراً طويلاً فجاءه قوم فقالوا: إن ههنا قوماً يعبدون شجرة من دون الله تعالى فغضب لذلك وأخذ فأسه على عاتقه وقصد الشجرة ليقطعها فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال: أين تريد رحمك الله قال: أريد أن أقطع هذه الشجرة قال: وما أنت وذاك! تركت عبادتك واشتغالك بنفسك وتفرغت لغير ذلك! فقال: إن هذا من عبادتي قال: إني لا أتركك أن تقطعها فقاتله فأخذه العابد فطرحه إلى الأرض وقعد على صدره فقال له إبليس: أطلقني حتى أكلمك فقام عنه فقال إبليس: يا هذا إن الله تعالى قد أسقط عنك هذا ولم يفرضه عليك! وما تعبدها أنت وما عليك من غيرك ولله تعالى أنبياء في أقاليم الأرض ولو شاء لبعثهم إلى أهلها وأمرهم بقطعها! فقال العابد: لا بد لي من قطعها فنابذه للقتال فغلبه العابد وصرعه وقعد على صدره فعجز إبليس فقال له: هل لك في أمر فصل بيني وبينك وهو خير لك وأنفع قال: وما هو قال: أطلقني حتى أقول لك فأطلقه فقال إبليس: أنت رجل فقير لا شيء لك إنما أنت كل على الناس يعولونك ولعلك تحب أن تتفضل على إخوانك وتواسي جيرانك وتشبع وتستغني عن الناس! قال: نعم قال: فارجع عن هذا الأمر ولك على أن أجعل عند رأسك في كل ليلة دينارين إذا أصبحت أخذتهما فأنفقت على نفسك وعيالك وتصدقت على إخوانك فيكون ذلك أنفع لك وللمسلمين من قطع هذه الشجرة التي يغرس مكانها ولا يضرهم قطعها شيئاً ولا ينفع إخوانك المؤمنين قطعك إياها! فتفكر العابد فيما قال وقال: صدق الشيخ! لست بنبي فيلزمني قطع هذه الشجرة ولا أمرني الله أن أقطعها فأكون عاصياً بتركها وما ذكره أكثر منفعة فعاهده على الوفاء بذلك وحلف له فرجع العابد إلى متعبده فبات فلما أصبح رأى دينارين عند رأسه فأخذهما وكذلك الغد ثم أصبح اليوم الثالث وما بعده فلم ير شيئاً فغضب وأخذ فأسه على عاتقه فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال له: إلى أين قال: أقطع تلك الشجرة فقال: كذبت والله ما أنت بقادر على ذلك ولا سبيل لك إليها قال: فتناوله العابد ليفعل به كما فعل أول مرة فقال: هيهات فأخذه إبليس وصرعه فإذا هو كالعصفور بين رجليه وقعد إبليس على صدره وقال: لتنتهين عن هذا الأمر أو لأذبحنك فنظر العابد فإذا لا طاقة له به قال: يا هذا غلبتني فخل عني وأخبرني كيف غلبتك أولاً وغلبتني الآن فقال: لأنك غضبت أول مرة لله وكانت نيتك الآخرة فسخرني الله لك وهذه المرة غضبت لنفسك وللدنيا فصرعتك. هذه الحكايات تصديق قوله تعالى " إلا عبادك منهم المخلصين " إذ لا يتخلص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص ولذلك كان معروف الكرخي رحمه الله تعالى يضرب نفسه ويقول: يا نفس أخلصي تتخلصي. وقال سليمان: طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله تعالى. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى أبي موسى الأشعري: من خلصت نيته كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس وكتب بعض الأولياء إلى أخ له: أخلص النية في أعمالك يكفك القليل من العمل. وقال أيوب السختياني: تخليص النيات على العمال أشد عليهم من جميع الأعمال. وكان مطرف يقول: من صفا صفي له ومن خلط خلط عليه. ورؤي بعضهم في المنام فقيل له: كيف وجدت أعمالك فقال: كل شيء عملته لله وجدته حتى حبة رمان لفظتها من طريق وحتى هرة ماتت لنا رأيتها في كفة الحسنات وكان في قلنسوتي خيط من حرير فرأيته في كفة السيئات وكان قد نفق حمار لي قيمته مائة دينار فما رأيت له ثواباً فقلت: موت سنور في كفة الحسنات وموت حمار ليس فيها فقيل لي: إنه قد وجه حيث بعثت به فإنه لما قيل لك: قد مات قلت: في لعنة الله فبطل أجرك فيه ولو قلت: في سبيل الله لوجدته في حسناتك. وفي رواية قال: وكنت قد تصدقت بصدقة بين الناس فأعجبني نظرهم إلي فوجدت ذلك لا علي ولا لي. قال سفيان - لما سمع هذا -: ما أحسن حاله إذ لم يكن عليه فقد أحسن إليه. وقيل: كان رجل يخرج في زي النساء ويحضر كل موضع يجتمع فيه النساء من عرس أو مأتم فاتفق أن حضر يوماً موضعاً فيه مجمع للنساء فسرقت درة فصاحوا: أن أغلقوا الباب حتى نفتش فكانوا يفتشون واحدة واحدة حتى بلغت النوبة إلى الرجل وإلى امرأة معه فدعا الله تعالى بالإخلاص وقال: إن نجوت من هذه الفضيحة لا أعود إلى مثل هذا فوجدت الدرة مع تلك المرأة فصاحوا: أن أطلقوا الحرة فقد وجدنا الدرة. وقال بعض الصوفية: كنت قائماً مع أبي عبيد التستري وهو يحرث أرضه بعد العصر من يوم عرفة فمر به بعض أخوانه من الأبدال فساره بشيء فقال أبو عبيد: لا فمر كالسحاب يمسح الأرض حتى غاب عن عيني فقلت لأبي عبيد: ما قال لك فقال: سألني أن أحج معه قلت: لا قلت: فهلا فعلت قال: ليس لي في الحج نية وقد نويت أن أتمم هذه الأرض العشية فأخاف إن حججت معه لأجله تعرضت لمقت الله تعالى لأني أدخل في عمل الله شيئاً غيره فيكون ما أنا فيه أعظم عندي من سبعين حجة. ويروى عن بعضهم قال: غزوت في البحر فعرض بعضنا مخلاة فقلت: أشتريها فأنتفع بها في غزوي فإذا دخلت مدينة كذا بعتها فربحت فيها فاشتريتها فرأيت تلك الليلة في النوم كأن شخصين نزلا من السماء فقال أحدهما لصاحبه: اكتب الغزاة فأملي عليه خرج فلان متنزهاً وفلان مرائياً وفلان تاجراً وفلان في سبيل الله ثم نظر إلي وقال: اكتب فلان خرج تاجراً فقلت: الله الله في أمري! ما خرجت أتجر وما معي تجارة أتجر فيها ما خرجت إلا للغزو فقال: يا شيخ قد اشتريت أمس مخلاة تريد أن تربح بها فبكيت وقلت: لا تكتبوني تاجراً فنظر إلى صاحبه وقال: ما ترى فقال: اكتب خرج فلان غازياً إلا أنه اشترى في طريقه مخلاة ليربح فيها حتى يحكم الله عز وجل فيه بما يرى. وقال سري السقطي رحمه الله تعالى: لأن تصلي ركعتين في خلوة تخلصهما خير لك من أن تكتب سبعين حديثاً أو سبعمائة بعلو وقال بعضهم: في إخلاص ساعة نجاة الأبد ولكن الإخلاص عزيز. ويقال: العلم بذر والعمل زرع وماؤه الإخلاص. وقال بعضهم: إذا أبغض الله عبداً أعطاه ثلاثاً ومنعه ثلاثاً: أعطاه صحبة الصالحين ومنعه القبول منهم وأعطاه الأعمال الصالحة ومنعه الإخلاص فيها وأعطاه الحكمة ومنعه الصدق فيها. وقال السوسي: مراد الله من عمل الخلائق الإخلاص فقط. وقال الجنيد: إن لله عباداً عقلوا فلما عقلوا عملوا فلما عملوا أخلصوا فاستدعاهم الإخلاص إلى أبواب البر أجمع. وقال محمد بن سعيد المروزي: الأمر كله يرجع إلى أصلين: فعل منه بك وفعل منك له فترضى ما فعل وتخلص فيما تعمل. فإذن أنت سعدت بهذين وفزت في الدارين.
اعلم أن كل شيء يتصور أن يشوبه غيره فإذا صفا عن شوبه وخلص عنه سمي خالصاً ويسمى الفعل المصفى المخلص: إخلاصاً. قال الله تعالى: " من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين " فإنما خلوص اللبن أن لا يكون فيه شوب من الدم والفرث ومن كل ما يمكن أن يمتزج به والإخلاص بضادة الإشراك فمن ليس مخلصاً فهو مشرك إلا أن الشرك درجات فالإخلاص في التوحيد يضاده التشريك في الإلهية. والشرك - منه خفي ومنه جلي وكذا الإخلاص - والإخلاص وضده يتواردان على القلب فمحله القلب وإنما يكون ذلك في القصود والنيات. وقد ذكر حقيقة النية وأنها ترجع إلى إجابة البواعث فمهما كان الباعث واحد على التجرد سمي الفعل الصادر عنه إخلاصاً بالإضافة إلى المنوي فمن تصدق وغرضه محض الرياء فهو مخلص ومن كان غرضه محض التقرب إلى الله تعالى فهو مخلص. ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الإخلاص بتجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب كما أن الإلحاد عبارة عن الميل ولكن خصصته العادة بالميل عن الحق ومن كان باعثه مجرد الرياء فهو معرض للهلاك - ولسنا نتكلم فيه إذ قد ذكرنا ما يتعلق به في كتاب الرياء من ربع المهلكات - وأقل أموره ما ورد في الخبر من " إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربع أسام: يا مرائي يا مخادع يا مشرك يا كافر ". وإنما نتكلم الآن فيمن انبعث لقصد التقرب ولكن امتزج بهذا الباعث باعث آخر إما من الرياء أو من غيره من حظوظ النفس. ومثال ذلك أن الصوم لينتفع بالحمية الحاصلة بالصوم مع قصد التقرب. أو يعتق عبد ليتخلص من مؤنته وسوء خلقه أو يحج ليصح مزاجه بحركة السفر أو يتخلص من شر يعرض له في بلده أو ليهرب عن عدو له في منزله أو يتبرم بأهله وولده أو بشغل هو فيه فأراد أن يستريح منه أياماً. أو ليغزو وليمارس الحرب ويتعلم أسبابه ويقدر به على تهيئة العساكر وجرها. أو يصلي بالليل وله غرض في دفع النعاس عن نفسه به ليراقب أهله أو رحله أو يتعلم العلم ليسهل عليه طلب ما يكفيه من المال أو ليكون عزيزاً بين العشيرة أو ليكون عقاره أو ماله محروساً بعز العلم عن الأطماع أو اشتغل بالدرس والوعظ ليتخلص عن كرب الصمت ويتفرج بلذة الحديث. أو تكفل بخدمة العلماء الصوفية لتكون حرمته وافرة عندهم وعند الناس أو لينال به رفقاً في الدنيا. أو كتب مصحفاً ليجود بالمواظبة على الكتابة خطه. أو حج ماشياً ليخفف عن نفسه الكراء. أو توضأ ليتنظف أو يتبرد. أو اغتسل لتطيب رائحته أو روى الحديث ليعرف بعلو الإسناد أو اعتكف في المسجد ليخف كراء المسكن أو صام ليخفف عن نفسه التردد في طبخ الطعام أو ليتفرغ لأشغاله فلا يشغله الأكل عنها أو تصدق على السائل ليقطع إبرامه في السؤال عن نفسه. أو يعود مريضاً ليعاد إذا مرض. أو يشيع جنازة ليشيع جنائز أهله أو يفعل شيئاً من ذلك ليعرف بالخير ويذكر به وينظر إليه بعين الصلاح والوقار فمهما كان باعثه هو التقرب إلى الله تعالى ولكن انضاف إليه خطرة من هذه الخطرات حتى صار العمل أخف عليه بسبب هذه الأمور فقد خرج عمله عن حد الإخلاص وخرج عن أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى وتطرق إليه الشرك. وقد قال تعالى: " أنا أغني الشركاء عن الشركة " وبالجملة كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس ويميل إليه القلب - قل أم كثر - إذا تطرق إلى العمل تكدر به صفوه وزال به إخلاصه. والإنسان مرتبط في حظوظه منغمس في شهواته قلما ينفك فعل من أفعاله وعبادة من عباداته عن حظوظ وأغراض عاجلة من هذه الأجناس. فلذلك قيل: من سلم له من عمره لحظة واحد خالصة لوجه الله نجا. وذلك لعزة الإخلاص وعسر تنقية القلب عن هذه الشوائب بل الخالص هو الذي لا باعث عليه إلا طلب القرب من الله تعالى. وهذه الحظوظ إن كانت هي الباعثة وحدها فلا يخفى شدة الأمر على صاحبه فيها وإنما نظرنا فيما إذا كان القصد الأصلي هو التقرب وانضافت إليه هذه الأمور ثم هذه الشوائب إما أن تكون رتبة الموافقة أو في رتبة المشاركة أو في رتبة المعاونة - كما سبق في النية - وبالجملة فإما أن يكون الباعث النفسي مثل الباعث الديني أو أقوى منه أو أضعف ولكل واحد حكم آخر - كما سنذكره - وإنما الإخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها - قليلها وكثيرها - حتى يتجرد فيه قصد التقرب فلا يكون فيه باعث سواه. وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستهتر بالله مستغرق الهم بالآخرة بحيث لم يبق لحب الدنيا في قلبه قرار حتى لا يحب الأكل والشرب أيضاً بل تكون رغبته فيه كرغبته في قضاء الحاجة من حيث إنه ضرورة الجبلة فلا يشتهي الطعام لأنه طعام بل لأنه يقويه على عبادة الله تعالى ويتمنى أن لو كفي شر الجوع حتى لا يحتاج إلى الأكل فلا يبقى في قلبه حظ من الفضول الزائدة على الضرورة ويكون قدر الضرورة مطلوباً عنده لأنه ضرورة دينه فلا يكون له هم إلا الله تعالى. فمثل هذا الشخص لو أكل أو شرب أو قضى حاجته كان خالص العمل صحيح النية في جميع حركاته وسكناته فلو نام مثلاً حتى يريح نفسه ليتقوى على العبادة بعده كان نومه عبادة وكان له درجة المخلصين فيه ومن ليس كذلك فباب الإخلاص في الأعمال مسدود عليه إلا على الندور وكما أن من غلب عليه حب الله وحب الآخرة فاكتسبت حركاته الاعتيادية صفة همه وصارت إخلاصاً فالذي يغلب على نفسه: الدنيا والعلو والرياسة - وبالجملة غير الله - فقد اكتسبت جميع حركاته تلك الصفة فلا تسلم له عباداته من صوم وصلاة وغير ذلك إلا نادراً. فإذن علاج الإخلاص كسر حظوظ النفس وقطع الطمع عن الدنيا والتجرد للآخرة بحيث يغلب ذلك على القلب فإذ ذاك يتيسر الإخلاص وكم من أعمال يتعب الإنسان فيها ويظن أنها خالصة لوجه الله ويكون فيها مغرور لأنه لا يرى وجه الآفة فيها إلا كما حكي عن بعضهم أنه قال: قضيت صلاة ثلاثين سنة كنت صليتها في المسجد في الصف الأول لأني تأخرت يوماً لعذر فصليت في الصف الثاني فاعترتني خجلة من الناس حيث رأوني في الصف الثاني فعرفت أن نظر الناس إلي في الصف الأول كان مسرتي وسبب استراحة قلبي من حيث لا أشعر وهذا دقيق غامض قلما تسلم الأعمال من أمثاله وقل من يتنبه إلا من وفقه الله تعالى والغافلون يرون حسناتهم كلها في الآخرة سيئات وهم المرادون بقوله تعالى: " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون - وبدا لهم سيئات ما كسبوا " وبقوله تعالى: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً " وأشد الخلق تعرضاً لهذه الفتنة العلماء فإن الباعث للأكثرين على نشر العلم لذة الاستيلاء والفرح بالاستتباع والاستبشار بالحمد والثناء والشيطان يلبس عليهم ذلك ويقول: غرضكم نشر دين الله والنضال عن الشرع الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وترى الواعظ يمن على الله تعالى بنصيحة الخلق ووعظه للسلاطين ويفرح بقبول الناس قوله وإقبالهم عليه وهو يدعي أنه يفرح بما يسر له من نصرة الدين ولو ظهر من أقرانه من هو أحسن منه وعظاً وانصرف الناس عنه وأقبلوا عليه ساءه ذلك وغمه ولو كان باعثه الدين لشكر الله تعالى إذ كفاه الله تعالى هذا المهم بغيره ثم الشيطان مع ذلك لا يخليه ويقول: إنما غمك لانقطاع الثواب عنك لا لانصراف وجوه الناس عنك إلى غيرك إذ لو اتعظوا بقولك لكنت أنت المثاب واغتمامك لفوات الثواب محمود ولا يدري المسكين أن انقياده للحق وتسليمه الأمر أفضل وأجزل ثواباً وأعود عليه في الآخرة من انفراده. وليت شعري لو اغتم عمر رضي الله عنه بتصدي أبي بكر رضي الله تعالى عنه للإمامة أكان غمه محموداً أو مذموماً ولا يستريب ذو دين أن لو كان ذلك لكان مذموماً. لأن انقياده للحق وتسليمه الأمر إلى من هو أصلح منه أعود عليه في الدين من تكفله بمصالح الخلق مع ما فيه من الثواب الجزيل بل فرح عمر رضي الله تعالى عنه باستقلال من هو أولى منه بالأمر. فما بال العلماء لا يفرحون بمثل ذلك وقد ينخدع بعض أهل العلم بغرور الشيطان فيحدث نفسه بأنه لو ظهر من هو أولى منه بالأمر لفرح به وإخباره بذلك عن نفسه قبل التجربة والامتحان محض الجهل والغرور فإن النفس سهلة القياد في الوعد بأمثال ذلك قبل نزول الأمر ثم إذا دهاه الأمر تغير ورجع ولم يف بالوعد. وذلك لا يعرفه إلا من عرف مكايد الشيطان والنفس وطال اشتغاله بامتحانها فمعرفة حقيقة الإخلاص والعمل به بحر عميق يغرق فيه الجميع إلا الشاذ النادر والفرد الفذ وهو المستثنى في قوله تعالى " إلا عبادك منهم المخلصين " فليكن العبد شديد التفقد والمراقبة لهذه الدقائق وإلا التحق بأتباع الشياطين وهو لا يشعر. قال السوسي: الإخلاص فقد رؤية الإخلاص فإن من شاهد في إخلاصه الإخلاص فقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص. وما ذكره إشارة إلى تصفية العمل عن العجب بالفعل فإن الالتفات إلى الإخلاص والنظر إليه عجب وهو من جملة الآفات والخالص: ما صفا عن جميع الآفات فهذا تعرض لآفة واحدة. وقال سهل رحمه الله تعالى: الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة وهذه كلمة جامعة محيطة بالغرض وفي معناه قول إبراهيم بن أدهم: الإخلاص صدق النية مع الله تعالى. وقيل لسهل: أي شيء أشد على النفس فقال: الإخلاص إذ ليس لها فيه نصيب. وقال رويم: الإخلاص في العمل هو أن لا يريد صاحبه عليه عوضاً في الدارين. وهذا إشارة إلى أن حظوظ النفس آفة آجلاً وعاجلاً. والعابد لأجل التنعم بالشهوات في الجنة معلول بل الحقيقة أن لا يراد بالعمل إلا وجه الله تعالى وهو إشارة إلى إخلاص الصديقين وهو الإخلاص المطلق. فأما من يعمل لرجاء الجنة وخوف النار فهو مخلص بالإضافة إلى الحظوظ العاجلة وإلا فهو في طلب حظ البطن والفرج وإنما المطلوب الحق لذوي الألباب وجه الله تعالى فقط وهو القائل لا يتحرك الإنسان إلا لحظ والبراءة من الحظوظ صفة الإلهية ومن ادعى ذلك فهو كافر. وقد قضى القاضي أبو بكر الباقلاني بتكفير من يدعي البراءة من الحظوظ وقال: هذا من صفات الإلهية وما ذكره حق ولكن القوم إنما أرادوا به البراءة عما يسميه الناس حظوظاً وهو الشهوات الموصوفة في الجنة فقط. فأما التلذذ بمجرد المعرفة والمناجاة والنظر إلى وجه الله تعالى فهذا حظ هؤلاء وهذا لا يعده الناس حظاً بل يتعجبون منه. وهؤلاء لو عوضوا عما هم فيه من لذة الطاعة والمناجاة وملازمة السجود للحضرة الإلهية سراً وجهراً جميع نعيم الجنة لاستحقروه ولم يلتفتوا إليه فحركتهم لحظ وطاعتهم لحظ ولكن حظهم معبودهم فقط دون غيره. وقال أبو عثمان: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق فقط. وهذا إشارة إلى آفة الرياء فقط ولذلك قال بعضهم: الإخلاص في العمل أن لا يطلع عليه شيطان فيفسده ولا ملك وقد قيل: الإخلاص ما استتر عن الخلق وصفا عن العلائق. وهذا أجمع للمقاصد. وقال المحاسبي: الإخلاص هو إخراج الخلق عن معاملة الرب. وهذا إشارة إلى مجرد نفي الرياء. وكذلك قول الخواص: من شرب من كأس الرياسة فقد خرج عن إخلاص العبودية. وقال الحواريون لعيسى عليه السلام: ما الخالص من الأعمال فقال: الذي يعمل لله تعالى لا يحب أن يحمده عليه أحد. وهذا أيضاً تعرض لترك الرياء وإنما خصه بالذكر لأنه أقوى الأسباب المشوشة للإخلاص. وقال الجنيد: الإخلاص تصفية العمل من الكدورات. وقال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص بأن يعافيك الله منهما. وقيل: الإخلاص دوام المراقبة ونسيان الحظوظ كلها. وهذا هو البيان الكامل والأقاويل في هذا كثيرة ولا فائدة في تكثير النقل بعد انكشاف الحقيقة. وإنما البيان الشافي بيان سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن الإخلاص فقال: " أن تقول ربي الله ثم تستقيم كما أمرت ". أي لا تعبد هواك ونفسك ولا تعبد إلا ربك وتستقيم في عبادته كما أمرت وهذا إشارة إلى قطع ما سوى الله عن مجرى النظر وهو الإخلاص اعلم أن الآفات المشوشة للإخلاص بعضها جلي وبعضها خفي وبعضها ضعيف مع الجلاء وبعضها قوي مع الخفاء ولا يفهم اختلاف درجاته في الخفاء والجلاء إلا بمثال. وأظهر مشوشات الإخلاص الرياء فلنذكر منه مثالاً: فنقول: الشيطان يدخل الآفة على المصلي مهما كان مخلصاً في صلاته ثم نظر إليه جماعة أو دخل عليه داخل فيقول له: حسن صلاتك حتى ينظر إليك هذا الحاضر بعين الوقار والصلاح ولا يزدريك ولا يغتابك! فتخشع جوارحه وتسكن أطرافه وتحسن صلاته وهذا هو الرياء الظاهر ولا يخفى ذلك على المبتدئين من المريدين. الدرجة الثانية: يكون المريد قد فهم هذه الآفة وأخذ منها حذره فصار لا يطيع الشيطان فيها ولا يلتفت إليه ويستمر في صلاته كما كان. فيأتيه في معرض الخير ويقول: أنت متبوع ومقتدى بك ومنظور إليك وما تفعله يؤثر عنك ويتأسى بك غيرك فيكون لك ثواب أعمالهم إن أحسنت وعليك الوزر إن أسأت فأحسن عملك بين يديه فعساه يقتدي بك في الخشوع وتحسين العبادة! وهذا أغمض من الأول وقد ينخدع به من لا ينخدع بالأول وهو أيضاً عين الرياء ومبطل للإخلاص فإنه إن كان يرى الخشوع وحسن العبادة خيراً لا يرضى لغيره تركه فلم لم يرتض لنفسه ذلك في الخلوة ولا يمكن أن تكون نفس غيره أعز عليه من نفسه فهذا محض التلبيس بل المقتدي به هو الذي في نفسه واستنار قلبه فانتشر نوره إلى غيره فيكون له ثواب عليه فأما هذا فمحض النفاق والتلبيس فمن اقتدى به أثيب عليه وأما هو فيطالب بتلبيسه ويعاقب على إظهاره من نفسه ما ليس متصفاً به. الدرجة الثالثة: وهي أدق مما قبلها أن يجرب العبد نفسه في ذلك ويتنبه لكيد الشيطان ويعلم أن مخالفته بين الخلوة والمشاهدة للغير محض الرياء ويعلم أن الإخلاص في أن تكون صلاته في الخلوة مثل صلاته في الملأ ويستحيي من نفسه ومن ربه أن يتخشع لمشاهدة خلقه تخشعاً زائداً على عادته فيقبل على نفسه في الخلوة ويحسن صلاته على الوجه الذي يرتضيه في الملأ ويصلي في الملأ أيضاً كذلك فهذا أيضاً من الرياء الغامض لأنه حسن صلاته في الخلوة لتحسن في الملأ فلا يكون قد فرق بينهما فالتفاته في الخلوة والملأ إلى الخلق بل الإخلاص أن تكون مشاهدة البهائم لصلاته ومشاهدة الخلق على وتيرة واحدة فكأن نفس هذا ليست تسمح بإساءة الصلاة بين أظهر الناس ثم يستحيي من نفسه أن يكون في صورة المرائين ويظن أن ذلك يزول بأن تستوي صلاته في الخلا والملا وهيهات! بل زوال ذلك بأن لا يلتفت إلى الخلق كما لا يلتفت إلى الجمادات في الخلا والملأ جميعاً وهذا من شخص مشغول الهم بالخلق في الملأ والخلا جميعاً وهذا من الدرجة الرابعة: وهي أدق وأخفى أن ينظر إليه الناس وهو في صلاته فيعجز الشيطان عن أن يقول له: اخشع لأجلهم فإنه قد عرف أنه قد تفطن لذلك فيقول له الشيطان: تفكر في عظمة الله تعالى وجلاله ومن أنت واقف بين يديه واستحي من أن ينظر الله إلى قلبك وهو غافل عنه فيحضر بذلك قلبه وتخشع جوارحه ويظن أن ذلك عين الإخلاص وهو عين المكر والخداع فإن خشوعه لو كان لنظره إلى جلاله لكانت هذه الخطرة تلازمه في الخلوة ولكان لا يختص حضورها بحالة حضور غيره وعلامة الأمن من هذه الآفة أن يكون هذا الخاطر مما يألفه في الخلوة كما يألفه في الملأ ولا يكون حضور الغير هو السبب في حضور الخاطر كما لا يكون حضور البهيمة سبباً فما دام يفرق في أحواله بين مشاهدة إنسان ومشاهدة بهيمة فهو بعد خارج عن صفو الإخلاص مدنس الباطن بالشرك الخفي من الرياء وهذا الشرك أخفي في قلب ابن آدم من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء كما ورد في الخبر ولا يسلم من الشيطان إلا من دق نظره وسعد بعصمة الله تعالى وتوفيقه وهدايته وإلا فالشيطان ملازم للمتشمرين لعبادة الله تعالى لا يغفل عنهم لحظة حتى يحملهم على الرياء في كل حركة من الحركات حتى في كحل العين وقص الشارب وطيب يوم الجمعة ولبس الثياب فإن هذه سنن في أوقات مخصوصة وللنفس فيها حظ خفي لارتباط نظر الخلق بها ولاستئناس الطبع بها فيدعوه الشيطان إلى فعل ذلك ويقول هذه سنة لا ينبغي أن تتركها ويكون انبعاث القلب باطناً لها لأجل تلك الشهوة الخفية أو مشوبة بها شوباً يخرج عن حد الإخلاص بسببه وما لا يسلم عن هذه الآفات كلها فليس بخالص بل من يتعكف في مسجد معمور نظيف حسن العمارة يأنس إليه الطبع فالشيطان يرغبه ويكثر عليه من فضائل الاعتكاف وقد يكون المحرك الخفي في سره هو الأنس بحسن صورة المسجد واستراحة الطبع إليه ويتبين ذلك في ميله إلى أحد المسجدين أو أحد الموضعين إذا كان أحسن من الآخر وكل ذلك امتزاج بشوائب الطبع وكدورات النفس ومبطل حقيقة الإخلاص لعمري الغش الذي يمزج بخالص الذهب له درجات متفاوتة. فمنها ما يغلب ومنها ما يقل لكن يسهل دركه. ومنها ما يدق بحيث لا يدركه إلا الناقد البصير. وغش القلب ودغل الشيطان وخبث النفس أغمض من ذلك وأدق كثيراً. ولهذا قيل: ركعتان من عالم أفضل من عبادة سنة من جاهل وأريد به العالم البصير بدقائق آفات الأعمال حتى يخلص عنها فإن الجاهل نظره إلى ظاهر العبادة واغتراره بها كنظر السوادي إلى حمرة الدينار المموه واستدارته وهو مغشوش زائف في نفسه وقيراط من الخالص الذي يرتضيه الناقد البصير خير من دينار يرتضيه الغر الغبي. فهكذا يتفاوت أمر العبادات بل أشد وأعظم. ومداخل الآفات المتطرقة إلى فنون الأعمال لا يمكن حصرها وإحصاؤها فلينتفع بما ذكرناه مثالاً والفطن يغنيه القليل عن بيان حكم العمل المشوب واستحقاق الثواب به: اعلم أن العمل إذا لم يكن خالصاً لوجه الله تعالى بل امتزج به شوب من الرياء أو حظوظ النفس فقد اختلف الناس في أن ذلك هل يقتضي ثواباً أم يقتضي عقاباً أم لا يقتضي شيئاً أصلاً فلا يكون له ولا عليه أما الذي لم يرد به إلا الرياء فهو عليه قطعاً وهو سبب المقت والعقاب. وأما الخالص لوجه الله تعالى فهو سبب الثواب وإنما النظر في المشوب وظاهر الأخبار تدل على أنه لا ثواب له وليس تخلو الأخبار عن تعارض فيه. والذي ينقدح لما فيه - والعلم عند الله - أن ينظر إلى قدر قوة الباعث. فإن كان الباعثالديني مساوياً للباعث النفسي تقاوماً وتساقطاً وصار العمل لا له ولا عليه وإن كان باعث الرياء أغلب وأقوى فهو ليس بنافع وهو مع ذلك مضر ومفض للعقاب. نعم العقاب الذي فيه من عقاب العمل الذي تجرد للرياء ولم يمتزج به شائبة التقرب. وإن كان قصد التقرب أغلب بالإضافة إلى الباعث الآخر فله ثواب بقدر ما فضل من قوة الباعث الديني وهذا لقوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " ولقوله تعالى: " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها " فلا ينبغي أن يضيع قصد الخير بل إن كان غالباً على قصد الرياء حبط منه القدر الذي يساويه وبقيت زيادة وإن كان مغلوباً سقط بسببه شيء من عقوبة القصد الفاسد وكشف الغطاء عن هذا أن الأعمال تأثيرها في القلوب بتأكيد صفاتها. فداعية الرياء من المهلكات وإنما غذاء هذا المهلك وقوته العمل على وفقه وداعية الخير من المنجيات وإنما قوتها بالعمل على وفقها فإذا اجتمعت الصفتان في القلب فهما متضادتان فإذا عمل على وفق مقتضى الرياء فقد قوي تلك الصفة وإذا كان العمل على وفق مقتضى التقرب فقد قوي أيضاً تلك الصفة وأحدهما مهلك والآخر منج فإن كان تقوية هذا بقدر تقوية الآخر فقد تقاوما فكان كالمستضر بالحرارة إذا تناول ما يضره ثم تناول من المبردات ما يقاوم قدر قوته فيكون بعد تناولهما كأنه لم يتناولهما وإن كان أحدهما غالباً لم يخل الغالب عن أثر فكما لا يضيع مثقال ذرة من الطعام والشراب والأدوية ولا ينفك عن أثر في الجسد بحكم سنة الله تعالى فكذلك لا يضيع مثقال ذرة من الخير والشر ولا ينفك عن تأثير في إنارة القلب أو تسويده وفي تقريبه من الله أو إبعاده فإذا جاء بما يقربه شبراً مع ما يبعده شبراً فقد عاد إلى ما كان فلم يكن له ولا عليه وإن كان الفعل مما يقربه شبرين والآخر يبعده شبراً واحداً فضل له لا محالة شبر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أتبع السيئة الحسنة تمحها " فإذا كان الرياء المحض يمحوه الإخلاص المحض عقيبه فإذا اجتمعا جميعاً فلا بد وأن يتدافعا بالضرورة. ويشهد لهذا إجماع الأمة على أن من خرج حاجاً ومعه تجارة صح حجه وأثيب عليه وقد امتزج به حظ من حظوظ النفس. نعم يمكن أن يقال: إنما يثاب على أعمال الحج عند انتهائه إلى مكة وتجارته غير موقوفة عليه فهو خالص وإنما المشترك طول المسافة ولا ثواب فيه مهما قصد التجارة. ولكن الصواب أن يقال: مهما كان الحج هو المحرك الأصلي وكان غرض التجارة كالمعين والتابع فلا ينفك نفس السفر عن ثواب ما. وعندي: أن الغزاة لا يدركون في أنفسهم تفرقة بين غزو الكفار في جهة تكثر فيها الغنائم وبين جهة لا غنيمة فيها ويبعد أن يقال: إدراك هذه التفرقة يحبط بالكلية ثواب جهادهم بل العدل أن يقال: إذا كان الباعث الأصلي والمزعج القوي هو إعلاء كلمة الله تعالى وإنما الرغبة في الغنيمة على سبيل التبعية فلا يحبط به الثواب. نعم لا يساوي ثوابه ثواب من لا يلتفت قلبه إلى الغنيمة أصلاً فإن هذا الالتفات نقصان لا محالة. فإن قلت: فالآيات والخبار تدل على أن شوب الرياء محبط للثواب وفي معناه شوب طلب الغنيمة والتجارة وسائر الحظوظ فقد روى طاوس وغيره من التابعين: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عمن يصطنع المعروف - أو قال يتصدق - فيحب أن يحمد ويؤجر فلم يدر ما يقوله حتى نزلت " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحد " وقد قصد الأجر والحمد جميعاً. وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يقال لمن أشرك في عمله خذ أجرك ممن عملت له ". وروي عن عبادة " أن الله عز وجل يقول: أنا أغنى الأغنياء عن الشركة من عمل لي عملاً فأشرك معي غيري ودعت نصيبي لشريكي ". وروى أبو موسى أن أعرابياً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى مكانه فأيهم في سبيل الله فقال صلى الله عليه وسلم: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ". وقال عمر رضي الله عنه: تقولون فلان شهيد ولعله أن يكون قد ملأ دفتي راحلته ورقاً. وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من هاجر يبتغي شيئاً من الدنيا فهو له ". فنقول هذه الأحاديث لا تناقض ما ذكرناه بل المراد بها من لم يرد بذلك إلا الدنيا كقوله: " من هاجر يبتغي شيئاً من الدنيا " وكان ذلك هو الأغلب على همه وقد ذكرنا أن ذلك عصيان وعدوان لا لأن طلب الدنيا حرام ولكن طلبها بأعمال الدين حرام لما فيه من الرياء وتغيير العبادة عن موضعها وأما لفظ الشركة حيث ورد فمطلق للتساوي وقد بينا أنه إذا تساوى القصدان تقاوما ولم يكن له ولا عليه فلا ينبغي أن يرجى عليه ثواب ثم إن الإنسان عند الشركة أبداً في خطر فإنه لا يدري أي الأمرين أغلب على قصده فربما يكون عليه وبالاً ولذلك قال تعالى: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحد " أي لا يرجى اللقاء مع الشركة التي أحسن أحوالها التساقط ويجوز أن يقال: منصب الشهادة لا ينال إلا بالإخلاص في الغزو. وبعيد أن يقال: من كانت داعيته الدينية بحيث تزعجه إلى مجرد الغزو - وإن لم يكن غنيمة - وقدر على غزو طائفتين من الكفار إحداهما غنية والأخرى فقيرة فمال إلى جهة الأغنياء - لإعلاء كلمة الله وللغنيمة - لا ثواب له على غزوه البتة ونعوذ بالله أن يكون الأمر كذلك فإن هذا حرج في الدين ومدخل لليأس على المسلمين لأن أمثال هذه الشوائب التابعة قط لا ينفك الإنسان عنها إلا على الندور فيكون تأثير هذا في نقصان الثواب فأما أن يكون في إحباطه فلا نعم الإنسان فيه على خطر عظيم لأنه ربما يظن أن الباعث الأقوى هو قصد التقرب إلى الله ويكون الأغلب على سره الحظ النفسي وذلك مما يخفى غاية الخفاء فلا يحصل الأجر إلا بالإخلاص والإخلاص قلما يستيقنه العبد من نفسه وإن بالغ في الاحتياط فلذلك ينبغي أن يكون أبداً بعد كمال الاجتهاد متردداً بين الرد والقبول خائفاً أن تكون في عبادته آفة يكون وبالها أكثر من ثوابها. وهكذا كان الخائفون من ذوي البصائر وهكذا ينبغي أن يكون كل ذي وقال عبد العزيز بن أبي رواد: جاورت هذا البيت ستين سنة وحججت ستين حجة فما دخلت في شيء من أعمال الله تعالى إلا وحاسبت نفسي فوجدت نصيب الشيطان أوفى من نصيب الله ليته لا لي ولا علي. ومع هذا فلا ينبغي أن يترك العمل عند خوف الآفة والرياء فإن ذلك منتهى بغية الشيطان منه إذ المقصود أن لا يفوت الإخلاص ومهما ترك العمل فقد ضيع العمل والإخلاص جميعاً. وقد حكي أن بعض الفقراء كان يخدم أبا سعيد الخراز ويخف في أعماله فتكلم أبو سعيد في الإخلاص يوماً - يريد إخلاص الحركات - فأخذ الفقير يتفقد قلبه عند كل حركة ويطالبه بالإخلاص فتعذر عليه قضاء الحوائج واستضر الشيخ بذلك فسأله عن أمره فأخبره بمطالبته نفسه بحقيقة الإخلاص وأنه يعجز عنها في أكثر أعماله فيتركها فقال أبو سعيد: لا تفعل إذ الإخلاص لا يقطع المعاملة فواظب على العمل واجتهد في تحصيل الإخلاص فما قلت لك اترك العمل وإنما قلت لك أخلص العمل. وقد قال الفضيل: ترك العمل بسبب الخلق رياء وفعله لأجل الخلق شرك.
قال الله تعالى: " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ". ويكفي في فضيلة الصدق أن الصديق مشتق منه والله تعالى وصف الأنبياء به في معرض المدح والثناء فقال: " واذكروا في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً " وقال: " واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً ". وقال تعالى: " واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً ". وقال ابن عباس: أربع من كن فيه فقد ربح: الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر. وقال بشر بن الحارث: من عامل الله بالصدق استوحش من الناس. وقال أبو عبد الله الرملي: رأيت منصوراً الدينوري في المنام فقلت له: ما فعل الله بك قال: غفر لي ورحمني وأعطاني ما لم أؤمل فقلت له: أحسن ما توجه العبد به إلى الله ماذا قال: الصدق وأقبح ما توجه به الكذب. وقال أبو سليمان: اجعل الصدق مطيتك والحق سيفك والله تعالى غاية طلبتك. وقال رجل لحكيم: ما رأيت صادقاً! فقال له: لو كنت صادقاً لعرفت الصادقين. وعن محمد بن علي الكتاني قال: وجدنا دين الله تعالى مبنياً على ثلاثة أركان: الحق والصدق والعدل فالحق على الجوارح والعدل على القلوب والصدق على العقول. وقال الثوري في قوله تعالى: " ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة " قال: هم الذين ادعوا محبة الله تعالى ولم يكونوا بها صادقين. وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: يا داود من صدقني في سريرته صدقته عند المخلوقين في علانيته. وصاح رجل في مجلس الشبلي ورمى نفسه في دجلة فقال الشبلي: إن كان صادقاً فالله تعالى ينجيه كما نجى موسى عليه السلام وغن كان كاذباً فالله تعالى يغرقه كما أغرق فرعون. وقال بعضهم: أجمع الفقهاء والعلماء على ثلاث خصال أنها إذا صحت ففيها النجاة - ولا يتم بعضها إلا ببعض - الإسلام الخالص عن البدعة والهوى والصدق لله تعالى في الأعمال وطيب المطعم. وقال وهب بن منبه: وجدت على حاشية التوراة اثنين وعشرين حرفاً كان صلحاء بني إسرائيل يجتمعون فيقرؤونها ويتدارسونها: لا كنز أنفع من العلم ولا مال أربح من الحلم ولا حسب أوضع من الغضب ولا قرين أزين من العمل ولا رفيق أشين من الجهل ولا شرف أعز من التقوى ولا كرم أوفى من ترك الهوى ولا عمل أفضل من الفكر ولا حسنة أعلى من الصبر ولا سيئة أخزى من الكبر ولا دواء ألين من الرفق ولا داء أوجع من الخرق ولا رسول أعدل من الحق ولا دليل أنصح من الصدق ولا فقر أذل من الطمع ولا غنى أشقى من الجمع ولا حياة أطيب من الصحة ولا معشية أهنأ من العفة ولا عبادة أحسن من الخشوع ولا زهد خير من القنوع ولا حارس أحفظ من الصمت ولا غائب أقرب من الموت. وقال محمد بن سعيد المروزي: إذا طلبت الله بالصدق آتاك الله تعالى مرآة بيدك حتى تبصر كل شيء من عجائب الدنيا والآخرة. وقال أبو بكر الوراق: احفظ الصدق فيما بينك وبين الله تعالى والرفق فيما بينك وبين الخلق. وقيل لذي النون: هل للعبد إلى صلاح أموره سبيل فقال: فدعاوى الهوى تخف علينا وخلاف الهوى علينا ثقيل وقيل لسهل: ما أصل هذا الأمر الذي نحن عليه فقال: الصدق والسخاء والشجاعة. فقيل: زدنا فقال: التقى والحياء وطيب الغذاء. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الكمال فقال: " قول الحق والعمل بالصدق ". وعن الجنيد في قوله تعالى: " ليسأل الصادقين عن صدقهم " قال: يسأل الصادقين عند أنفسهم عن صدقهم عند ربهم وهذا أمر على خطر. اعلم أن لفظ الصدق يستعمل في ستة معان: صدق في القول وصدق في النية والإرادة وصدق في العزم وصدق في الوفاء بالعزم وصدق في العمل وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صديق لأنه مبالغة في الصدق. ثم هم أيضاً على درجات فمن كان له حظ في الصدق في شيء من الجملة فهو صادق بالإضافة إلى ما فيه صدقه. الصدق الأول: صدق اللسان وذلك لا يكون إلا في الإخبار أو فيما يتضمن الإخبار وينبه عليه والخبر إما أن يتعلق بالماضي أو بالمستقبل وفيه يدخل الوفاء بالوعد والخلف فيه. وحق على كل عبد أن يحفظ ألفاظه فلا يتكلم إلا بالصدق وهذا هو أشهر أنواع الصدق وأظهرها فمن حفظ لسانه عن الإخبار عن الأشياء على خلاف ما هي عليه فهو صادق ولكن لهذا الصدق كمالان: أحدهما الاحتراز عن المعاريض فقد قيل: في المعاريض مندوحة عن الكذب وذلك لأنها تقوم مقام الكذب إذ المحذور من الكذب تفهيم الشيء على خلاف ما هو في نفسه إلا أن ذلك مما تمس إليه الحاجة وتقتضيه المصلحة في الأحوال وفي تأديب الصبيان والنسوان ومن يجري مجراهم وفي الحذر عن الظلمة وفي قتال الأعداء والاحتراز عن إطلاعهم على أسرار الملك فمن اضطر إلى شيء من ذلك فصدقه فيه أن يكون نطقه فيه لله فيما يأمره الحق به ويقتضيه الدين فإذا نطق به فهو صادق وإن كان كلامه مفهماً غير ما هو عليه لأن الصدق ما أريد لذاته بل للدلالة على الحق والدعاء إليه فلا ينظر إلى صورته بل إلى معناه نعم في مثل هذا الموضع ينبغي أن يعدل إلى المعاريض ما وجد إليه سبيلاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توجه إلى سفر ورى بغيره وذلك كي لا ينتهي الخبر إلى الأعداء فيقصد وليس هذا من الكذب في شيء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيراً أو أنمى خيراً " ورخص في النطق على وفق المصلحة في ثلاثة مواضع: من أصلح بين اثنين ومن كان له زوجتان ومن كان في مصالح الحرب. والصدق ههنا يتحول إلى النية فلا يراعي فيه إلا صدق النية وإرادة الخير فمهما صح قصده وصدقت نيته وتجردت للخير إرادته صار صادقاً وصديقاً كيفما كان لفظه ثم التعريض فيه أولى. وطريقه ما حكي عن بعضهم أنه كان يطلبه بعض الظلمة وهو في داره فقال لزوجته: خطي بإصبعك دائرة وضعي الإصبع على الدائرة وقولي ليس هو ههنا واحترز بذلك عن الكذب ودفع الظالم عن نفسه فكان قوله صدق وأفهم الظالم أنه ليس في الدار. فالكمال الأول في اللفظ أن يحترز عن صريح اللفظ وعن المعاريض أيضاً إلا عند الضرورة. والكمال الثاني: أن يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه كقوله: " وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض " فإن قلبه إن كان منصرفاً عن الله تعالى مشغولاً بأماني الدنيا وشهواته فهو كذب. وكقوله: " إياك نعبد " وقوله: أنا عبد الله فإنه إذا لم يتصف بحقيقة العبودية وكان له مطلب سوى الله لم يكن كلامه صدقاً ولو طولب يوم القيامة بالصدق في قوله: أنا عبد الله لعجز تحقيقه فإنه كان عبداً لنفسه أو عبداً لدنيا أو عبداً لشهواته لم يكن صادقاً في قوله. وكل ما تقيد العبد به فهو عبد له كما قال عيسى عليه السلام: يا عبيد الدنيا! وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: " تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم وعبد الحلة وعبد الخميصة " فسمى كل من تقيد بشيء عبداً له. وإنما العبد الحق - لله عز وجل - من أعتق أولاً من غير الله تعالى فصار حراً مطلقاً فإذا تقدمت هذه الحرية صار القلب فارغاً فحلت فيه العبودية لله فتشغله بالله وبمحبته وتقيد باطنه وظاهره بطاعته فلا يكون له مراد إلا الله تعالى ثم تجاوز هذا إلى مقام آخر أسمى منه يسمى الحرية وهو أن يعتق أيضاً عن إرادته لله من حيث هو بل يقنع بما يريد الله له من تقريب أو إبعاد فتفنى إرادته في إرادة الله تعالى وهذا عبد عتق عن غير الله فصار حراً ثم عاد وعتق عن نفسه فصار حراً وصار مفقوداً لنفسه موجوداً لسيده ومولاه إن حركه تحرك وإن سكنه سكن وإن ابتلاه رضي لم يبق فيه متسع لطلب والتماس واعتراض بل هو بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل وهذا منتهى الصدق في العبودية لله تعالى فالعبد الحق هو الذي وجوده لمولاه لا لنفسه وهذه درجة الصديقين. وأما الحرية عن غير الله فدرجات الصادقين وبعدها تتحقق العبودية لله تعالى وما قبل هذا فلا يستحق صاحبه أن يسمى صادقاً ولا صديقاً فهذا هو معنى الصدق في القول. الصدق الثاني: في النية والإرادة! ويرجع ذلك إلى الإخلاص وهو أن لا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا الله تعالى فإن مازجه شوب من حظوظ النفس بطل صدق النية وصاحبه يجوز أن يسمى كاذباً - كما روينا في فضيلة الإخلاص من حديث الثلاثة حين يسأل العالم ما عملت فيما علمت فقال: فعلت كذا وكذا فقال الله تعالى: كذبت بل أردت أن يقال فلان عالم - فإنه لم يكذبه ولم يقل له لم تعمل ولكنه كذبه في إرادته ونيته. وقد قال بعضهم: الصدق صحة التوحيد في القصد. وكذلك قول الله تعالى: " والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " وقد قالوا إنك لرسول الله وهذا صدق ولكن كذبهم لا من حيث نطق اللسان بل من حيث ضمير القلب وكان التكذيب يتطرق إلى الخبر. وهذا القول يتضمن إخباراً بقرينة الحال إذ صاحبه يظهر من نفسه أن يعتقد ما يقول فكذب في دلالته بقرينة الحال على ما في قلبه فإنه كذب ولم يكذب فيما يلفظ به فيرجع أحد معاني الصدق إلى خلوص النية وهو الإخلاص فكل صادق فلا بد وأن يكون مخلصاً. الصدق الثالث: صدق العزم فإن الإنسان قد يقدم العزم على العمل فيقول في نفسه. إن رزقني الله مالاً تصدقت بجميعه - أو بشطره. أو إن لقيت عدواً في سبيل الله تعالى قاتلت ولم أبال وإن قتلت وإن أعطاني الله تعالى ولاية عدلت فيها ولم أعص الله تعالى بظلم وميل إلى خلق. فهذه العزيمة قد يصادفها من نفسه وهي عزيمة جازمة صادقة وقد يكون في عزمه نوع ميل وتردد وضعف يضاد الصدق في العزيمة فكان الصدق ههنا عبارة عن التمام والقوة كما يقال: لفلان شهوة صادقة. ويقال: هذا المريض شهوته كاذبة مهما لم تكن شهوته عن سبب ثابت قوي أو كانت ضعيفة فقد يطلق الصدق ويراد به هذا المعنى. والصادق والصديق هو الذي تصادف عزيمته في الخيرات كلها قوة تامة ليس فيها ميل ولا ضعف ولا تردد بل تسخو نفسه أبداً بالعزم المصمم الجازم على الخيرات وهو كما قال عمر رضي الله عنه: لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر - رضي الله عنه - فإنه قد وجد من نفسه العزم الجازم والمحبة الصادقة بأنه لا يتأمر مع وجود أبي بكر رضي الله عنه وأكد ذلك بما ذكره من القتل. ومراتب الصديقين في العزائم تختلف فقد يصادف العزم ولا ينتهي به إلى أن يرضى بالقتل فيه ولكن إذا خلي ورأيه لم يقدم ولو ذكر له حديث القتل لم ينقض عزمه بل في الصادقين والمؤمنين من لو خير بين أن يقتل هو أو أبو بكر كانت حياته أحب من حياة أبي بكر الصديق. الصدق الرابع: في الوفاء بالعزم فإن النفس قد تسخو بالعزم في الحال إذ لا مشقة في الوعد والعزم والمؤنة فيه خفيفة فإذا حقت الحقائق وحصل التمكن وهاجت الشهوات انحلت العزيمة وغلبت الشهوات ولم يتفق الوفاء بالعزم وهذا يضاد الصدق فيه ولذلك قال الله تعالى: " رجال صدقوا الله ما عاهدوا الله عليه " فقد روي عن أنس أن عمه أنس بن النضر لم يشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق ذلك على قلبه وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه أما والله لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع! قال: فشهد أحداً في العام القابل فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو إلى أين فقال: واها لريح الجنة! إني أجد ريحها دون أحد. فقاتل حتى قتل فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين رمية وضربة وطعنة فقالت أخته بنت النضر: ما عرفت أخي إلا بثيابه فنزلت هذه الآية " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ". ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصعب بن عمير - وقد سقط على وجهه يوم أحد شهيداً وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ". وقال فضالة بن عبيد: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الشهداء أربعة: رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك الذي يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة هكذا " ورفع رأسه حتى وقعت قلنسوته قال الراوي: فلا أدري قلنسوة عمر أو قلنسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم " ورجل جيد الإيمان إذا لقي العدو فكأنما يضرب وجهه بشوك الطلح أتاه سهم عاثر فقتله فهو في الدرجة الثانية ورجل مؤمن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذلك في الدرجة الثالثة ورجل أسرف على نفسه لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذاك في الدرجة الرابعة ". وقال مجاهد: رجلان خرجا على ملأ من الناس قعود فقالا: إن رزقنا الله تعالى لنتصدقن فبخلوا به فنزلت " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ". وقال بعضهم: إنما هو شيء نووه في أنفسهم لم يتكلموا به فقال " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضين فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون " فجعل العزم عهداً وجعل الخلف فيه كذباً والوفاء به صدقاً. وهذا الصدق أشد من الصدق الثالث فإن الناس قد تسخو بالعزم ثم تكيع عند الوفاء لشدته عليها ولهيجان الشهوة عند التمكن وحصول الأسباب. ولذلك استثنى عمر رضي الله عنه فقال: لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر اللهم إلا أن تسول لي نفسي عند القتل شيئاً لا أجده الآن لأني لا وقال أبو سعيد الخراز: رأيت في المنام كأن ملكين نزلا من السماء فقالا لي: ما الصدق قلت: الوفاء بالعهد فقالا لي: صدقت وعرجا إلى السماء. الصدق الخامس: في الأعمال وهو أن يجتهد حتى لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف هو به لا بأن يترك الأعمال ولكن بأن يستجر الباطن إلى تصديق الظاهر وهذا مخالف ما ذكرناه من ترك الرياء لأن المرائي هو الذي يقصد ذلك ورب واقف على هيئة الخشوع في صلاته ليس يقصد به مشاهدة غيره ولكن قلبه غافل عن الصلاة فمن ينظر إليه يراه قائماً بين يدي الله تعالى وهو بالباطن قائم في السوق بين يدي شهوة من شهواته فهذه أعمال تعرب بلسان الحال عن الباطن إعراباً هو فيه كاذب وهو مطلب بالصدق في الأعمال وكذلك قد يمشي الرجل على هيئة السكون والوقار وليس باطنه موصوفاً بذلك الوقار فهذا غير صادق في عمله وإن لم يكن ملتفتاً إلى الخلق ولا مرائياً إياهم ولا ينجو من هذا إلا باستواء السريرة والعلانية بأن يكون باطنه مثل ظاهره أو خيراً من ظاهره. ومن خيفة ذلك اختار بعضهم تشويش الظاهر ولبس ثياب الأشرار كيلا يظن به الخير بسبب ظاهره فيكون كاذباً في دلالة الظاهر على الباطن. إذن مخالفة الظاهر للباطن إن كانت عن قصد سميت رياء ويفوت بها الإخلاص وإن كانت عن غير قصد فيفوت بها الصدق. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم اجعل سريرتي خيراً من علانيتي واجعل علانيتي صالحة ". وقال يزيد بن الحارث: إذا استوت سريرة العبد وعلانيته فذلك النصف وإن كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل وإن كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجور. وأنشدوا: إذا السر والإعلان في المؤمن استوى فقد عز في الدارين واستوجب الثنا فإن خالف الإعلان سراً فما له على سعيه فضل سوى الكد والعنا فما خالص الدينار في السوق نافق ومغشوشه المردود لا يتقضى المنا وقال عطية بن عبد الغافر: إذا وافقت سريرة المؤمن علانيته باهى الله به الملائكة يقول: هذا عبدي حقاً. وقال معاوية بن قرة: من يدلني على بكاء بالليل بسام بالنهار. وقال عبد الواحد بن زيد: كان الحسن إذا أمر بشيء كان من أعمل الناس به وإذا نهي عن شيء كان من أترك الناس له ولم أر أحداً قط أشبه سريرة بعلانية منه. وكان أبو عبد الرحمن الزاهد يقول: إلهي عاملت الناس فيما بيني وبينهم بالأمانة وعاملتك فيما بيني وبينك بالخيانة - ويبكي. فإذن مساواة السريرة للعلانية أحد أنواع الصدق. الصدق السادس: وهو أعلى الدرجات وأعزها الصدق في مقامات الدين كالصدق في الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب وسائر هذه الأمور. فإن هذه الأمور لها مباد ينطلق الاسم بظهورها ثم لها غايات وحقائق والصادق المحقق من نال حقيقتها وإذا غلب الشيء وتمت حقيقته سمي صاحبه صادقاً فيه كما يقال: فلان صدق القتال. ويقال: هذا هو الخوف الصادق وهذه هي الشهوة الصادقة. وقال الله تعالى " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا " إلى قوله " أولئك هم الصادقون ". وقال تعالى: " ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر " إلى قوله " أولئك الذين صدقوا ". وسئل أبو ذر عن الإيمان فقرأ هذه الآية فقيل له: سألناك عن الإيمان فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقرأ هذه الآية. ولنضرب للخوف مثلاً: فما من عبد يؤمن بالله واليوم الآخر إلا وهو خائف من الله خوفاً ينطلق عليه الاسم ولكنه خوف غير صادق أي غير بالغ درجة الحقيقة أما تراه إذا خاف سلطاناً أو قاطع طريق في سفره كيف يصفر لونه وترتعد فرائصه ويتنغص عليه عيشه ويتعذر عليه أكله ونومه وينقسم عليه فكره حتى لا ينتفع به أهله وولده وقد ينزعج عن الوطن فيستبدل بالأنس الوحشة وبالراحة التعب والمشقة والتعرض للأخطار كل ذلك خوفاً من درك المحذور. ثم إنه يخاف النار ولا يظهر عليه شيء من ذلك عند جريان معصية عليه. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " لم أر مثل النار نام هاربها ولا مثل الجنة نام طالبها " فالتحقيق في هذه الأمور عزيز جداً ولا غاية لهذه المقامات حتى ينال تمامها ولكن لكل عبد منه حفظ يحسب حاله إما ضعيف وإما قوي فإذا قوي سمي صادقاً فيه. فمعرفة الله تعالى وتعظيمه والخوف منه لا نهاية لها ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: " أحب أن أراك في صورتك التي هي صورتك " فقال: لا تطيق ذلك قال: " بل أرني " فواعده بالبقيع في ليلة مقمرة فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو به قد سد الأفق - يعني جوانب السماء - فوقع النبي صلى الله عليه وسلم مغشياً عليه فأفاق وقد عاد جبريل لصورته الأولى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما ظننت أن أحداً من خلق الله هكذا " قال: وكيف لو رأيت إسرافيل إن العرش لعلى كاهله وإن رجليه قد مرقتا تخوم الأرض السفلى وإنه ليتصاغر من عظمة الله حتى يصير كالوصع يعني العصفور الصغير فانظر ما الذي يغشاه من العظمة والهيبة حتى يرجع إلى ذلك الحد وسائر الملائكة ليسوا كذلك لتفاوتهم في المعرفة فهذا هو الصدق في التعظيم. وقال جابر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مررت ليلة أسري بي وجبريل بالملأ الأعلى كالحلس البالي من خشية الله تعالى " يعني الكساء الذي يلقى على ظهر البعير وكذلك الصحابة كانوا خائفين وما كانوا بلغوا خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما: لن تبلغ حقيقة الإيمان حتى تنظر الناس كلهم حمقى في دين الله. وقال مطرف: ما من الناس أحد إلا وهو أحمق فيما بينه وبين ربه إلا أن بعض الحمق أهون من بعض. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى ينظر إلى الناس كالأباعر في جنب الله ثم يرجع إلى نفسه فيجدها أحقر حقير ". فالصادق إذن في جميع هذه المقامات عزيز. ثم درجات الصدق لا نهاية لها وقد يكون للعبد صدق في بعض الأمور دون بعض فإن كان صادقاً في الجميع فهو الصديق حقاً. قال سعد بن معاذ: ثلاثة أنا فيهن قوي وفيما سواهن ضعيف: ما صليت صلاة منذ أسلمت فحدثت نفسي حتى أفرغ منها ولا شيعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هي قائلة وما هو مقول لها حتى يفرغ من دفنها وما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قولاً إلا علمت أنه حق فقال ابن المسيب: ما ظننت أن هذه الخصال تجتمع إلا في النبي عليه السلام. فهذا صدق في هذه الأمور وكم قوم من جلة الصحابة قد أدوا الصلاة واتبعوا الجنائز ولم يبلغوا هذا المبلغ فهذه هي درجات الصدق ومعانيه. والكلمات المأثورة عن المشايخ في حقيقة الصدق في الأغلب لا تتعرض إلا لآحاد لهذه المعاني نعم قد قال أبو بكر الوراق: الصدق ثلاثة: صدق التوحيد وصدق الطاعة وصدق المعرفة. فصدق التوحيد لعامة المؤمنين قال الله تعالى: " والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون " وصدق الطاعة لأهل العلم والورع وصدق المعرفة لأهل الولاية الذين هم أوتاد الأرض - وكل هذا يدور على ما ذكرناه في الصدق السادس ولكنه ذكر أقسام ما فيه الصدق وهو أيضاً غير محيط بجميع الأقسام - وقال جعفر الصادق: الصدق هو المجاهدة وأن لا تختار على الله غيره كما لم يختر عليك غيرك فقال تعالى " هو اجتباكم " وقيل أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: إني إذا أحببت عبداً ابتليته ببلايا لا تقوم لها الجبال لأنظر كيف صدقه فإن وجدته صابراً اتخذته ولياً وحبيباً وإن وجدته جزوعاً يشكوني إلى خلقي خذلته ولا أبالي. فإذن من علامات الصدق كتمان المصائب والطاعات جميعاً وكراهة إطلاع الخلق عليها. تم كتاب الصدق والإخلاص يتلوه كتاب المراقبة والمحاسبة والحمد لله.
|